فصل: تفسير الآيات رقم (283- 286)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏283- 286‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏283‏)‏ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏284‏)‏ آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏285‏)‏ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏286‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير‏:‏ هذا إذا كنتم حضوراً يسهل عليكم إحضار الكاتب والشاهد، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم‏}‏ ولما كان الإنسان في السفر يكون مستجمع القوى كامل الآلات تام الأهبة عبر بأداة الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏على سفر‏}‏ يعوز مثله إحضار كاتب ‏{‏ولم تجدوا كاتباً فرهان‏}‏ أي فيغنيكم عن الكتب رهن يكون بدلاً عنه، وقرئ‏:‏ فرهان، وكلاهما جمع رهن- بالفتح والإسكان، وهو التوثقة بالشيء مما يعادله بوجه ما‏.‏ وأشار بأن بدليتها لا تفيد إلا بما وصفها من قوله‏:‏ ‏{‏مقبوضة‏}‏ أي بيد رب الدين وثيقة لدينه‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ هذا إن تخوفتم من المداين، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏فإن أمن‏}‏ ولما كان الائتمان تارة يكون من الدائن وتارة يكون من الراهن قال‏:‏ ‏{‏بعضكم بعضاً‏}‏ أي فلم تفعلوا شيئاً من ذلك ‏{‏فليؤد‏}‏ أي يعط، من الأداء وهو الإتيان بالشيء لميقاته‏.‏ ولما كان المراد التذكير بالإحسان بالائتمان ليشكر ولم يتعلق غرض بكونه من محسن معين بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏الذي اؤتمن‏}‏ من الائتمان وهو طلب الأمانة وهو إيداع الشيء لحفيظته حتى يعاد إلى المؤتمن- قاله الحرالي‏:‏ ‏{‏أمانته‏}‏ وهو الدين الذي ترك المؤتمن التوثق به من المدين إحساناً إليه وحسن ظن به، وكذا إن كان الائتمان من جهة الراهن ‏{‏وليتق الله‏}‏ المستجمع لصفات العظمة ‏{‏ربه‏}‏ أي الذي رباه في نعمه وصانه من بأسه ونقمه وعطّف عليه قلب من أعطاه وائتمنه ليؤدي الحق على الصفة التي أخذه بها فلا يخن في شيء مما اؤتمن عليه‏.‏

ولما كانت الكتابة لأجل إقامة الشهادة وكانت الأنفس مجبولة على الشح مؤسسة على حب الاستئثار فيحصل بسبب ذلك مخاصمات ويشتد عنها المشاحنات وربما كان بعض المخاصمين ممن يخشى أمره ويرجى بره فيحمل ذلك الشهود على السكوت قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكتموا الشهادة‏}‏ أي سواء كان صاحب الحق يعلمها أو لا‏.‏ ولما نهى أتبع النهي التهديد فقال‏:‏ ‏{‏ومن يكتمها فإنه آثم‏}‏ ولما كان محلها القلب الذي هو عمدة البدن قال‏:‏ ‏{‏قلبه‏}‏ ومن أثم قلبه فسد، ومن فسد قلبه فسد كله، لأن القلب قوام البدن، إذا فسد فسد سائر الجسد‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن الله سبحانه وتعالى عالم بأنه كتم وكان للشهداء جهات تنصرف بها الشهادة عن وجه الإقامة عطف عليه قوله- ليشمل التهديد تلك الأعمال بإحاطة العلم‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بجميع صفات الكمال‏.‏ ولما كان الإنسان هو المقصود الأعظم من سائر الأكوان فكانت أحواله مضبوطة بأنواع من الضبط كأن العلم البليغ مقصور عليه فلذلك قدم قوله‏:‏ ‏{‏بما تعملون‏}‏ أي كله وإن دق سواء كان فعل القلب وحده أو لا ‏{‏عليم *‏}‏ قال الحرالي‏:‏ فأنهى أمر ما بين الحق والخلق ممثولاً وأمر ما بين الخلق والخلق مثلاً- انتهى‏.‏

ولما أخبر عن سعة علمه دل عليه بسعة ملكه المستلزم لسعة قدرته ليدل ذلك على جميع الكمال لأنه قد ثبت كما قال الأصبهاني إن الصفات التي هي كمالات حقيقة ليست إلا القدرة والعلم المحيط فقال واعداً للمطيع متوعداً للعاصي مصرحاً بأن أفعال العباد وغيرها مخلوق له‏:‏- وقال الحرالي‏:‏ ولما كان أول السورة إظهار كتاب التقدير في الذكر الأول كان ختمها إبداء أثر ذلك الكتاب الأول في الأعمال والجزاء التي هي الغاية في ابتداء أمر التقدير فوقع الختم بأنه سلب الخلق ما في أيديهم مما أبدوه وما أخفوه من أهل السماوات والأرض؛ انتهى- فقال‏:‏ ‏{‏لله‏}‏ أي الملك الأعظم‏.‏ ولما كانت ما ترد لمن يغفل وكان أغلب الموجودات والجمادات عبر بها فقال‏:‏ ‏{‏ما في السماوات‏}‏ أي كله على علوها واتساعها من ملك وغيره ‏{‏وما في الأرض‏}‏ مما تنفقونه وغيره من عاقل وغيره، يأمر فيهما ومنهما بما يشاء وينهى عما يشاء ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء ويضاعف لمن يشاء‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فهو يعلم جميع ما فيهما من كتمانكم وغيره ويتصرف فيه بما يريد، عطف عليه محذراً من يكتم الشهادة أو يضمر سوءاً غيرها أو يظهره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تبدوا‏}‏ أي تظهروا ‏{‏ما في أنفسكم‏}‏ من شهادة أو غيرها ‏{‏أو تخفوه‏}‏ مما وطنتموه في النفس وعزمتم عليه وليس هو من الخواطر التي كرهتموها ولم تعزموا عليها‏.‏ قال الحرالي‏:‏ من الإخفاء وهو تغييب الشيء وأن لا يجعل عليه علم يهتدي إليه من جهته ‏{‏يحاسبكم‏}‏ من المحاسبة مفاعلة من الحساب والحسب، وهو استيفاء الأعداد فيما للمرء وعليه من الأعمال الظاهرة والباطنة يعني ليجازي بها ‏{‏به الله‏}‏ أي بذكره لكم وأنتم تعلمون ما له من صفات الكمال‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وفي ضمن هذا الخطاب لأولي الفهم إنباء بأن الله سبحانه وتعالى إذا عاجل العبد بالحساب بحكم ما يفهمه ترتيب الحساب على وقوع العمل حيث لم يكن فيحاسبكم مثلاً فقد أعظم اللطف به، لأن من حوسب بعمله عاجلاً في الدنيا خف جزاؤه عليه حيث يكفر عنه بالشوكة يشاكها حتى بالقلم يسقط من يد الكاتب، فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من ذنوبه وفراغ من حسابه كالذي يتعاهد بدنه وثوبه بالتنظيف فلا يتسخ ولا يدرن ولا يزال نظيفاً- انتهى وفيه تصرف‏.‏

ولما كان حقيقة المحاسبة ذكر الشيء والجزاء عليه وكان المراد بها هنا العرض وهو الذكر فقط بدلالة التضمن دل عليه بقوله مقدماً الترجئة معادلة لما أفهمه صدر الآية من التخويف‏:‏ ‏{‏فيغفر لمن يشاء‏}‏ أي فلا يجازيه على ذلك كبيرة كان أو لا ‏{‏ويعذب من يشاء‏}‏ بتكفير أو جزاء‏.‏

ولما أخبر سبحانه وتعالى بهذا أنه مطلق التصرف ختم الكلام دلالة على ذلك بقوله مصرحاً بما لزم تمام علمه من كمال قدرته‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي لا أمر لأحد معه ‏{‏على كل شيء قدير *‏}‏ أي ليس هو كملوك الدنيا يحال بينهم وبين بعض ما يريدون بالشفاعة وغيرها‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فسلب بهذه الآية القدرة عن جميع الخلق- انتهى‏.‏ وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية خاصة بأمر الشهادة، وقال الأكثرون‏:‏ هي عامة كما فهمها الصحابة رضوان الله سبحانه وتعالى عليهم في الوسوسة وحديث النفس المعزوم عليه وغيره ثم خففت بما بعدها، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏لله ما في السماوات‏}‏ الآية إلى ‏{‏قدير‏}‏ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ كُلّفنا من الأعمال ما نطيق‏:‏ الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أترون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم‏:‏ ‏{‏سمعنا وعصينا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 93‏]‏، قولوا‏:‏ ‏{‏سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير‏}‏ قالوا‏:‏ ‏{‏سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير‏}‏‏.‏

فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها ‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه‏}‏ إلى ‏{‏المصير‏}‏ فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى وأنزل ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها‏}‏ إلى ‏{‏أو أخطأنا‏}‏ قال‏:‏ نعم» قال البغوي‏:‏ وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ قد فعلت، واستمر إلى آخر السورة كلما قرؤوا جملة قال‏:‏ نعم‏.‏ فقد تبين من هذا تناسب هذه الآيات، وأما مناسبتها لأول السورة رداً للمقطع على المطلع فهو أنه لما ابتدأ السورة بوصف المؤمنين بالكتاب الذي لا ريب فيه على الوجه الذي تقدم ختمها بذلك بعد تفصيل الإنفاق الذي وصفهم به أولها على وجه يتصل بما قبله من الأوامر والنواهي والاتصاف بأوصاف الكمال أشد اتصال، وجعل رأسهم الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام تعظيماً للمدح وترغيباً في ذلك الوصف فأخبر بإيمانهم بما أنزل إليه بخصوصه وبجميع الكتب وجميع الرسل وبقولهم الدال على كمال الرغبة وغاية الضراعة والخضوع فقال استئنافاً لجواب من كأنه قال‏:‏ ما فعل من أنزلت عليه هذه الأوامر والنواهي وغيرها‏؟‏ ‏{‏آمن الرسول‏}‏ أي بما ظهر له من المعجزة القائمة على أن الآتي إليه بهذا الوحي ملك من عند الله سبحانه وتعالى كما آمن الملك به بما ظهر له من المعجزة الدالة على أن الذي أتى به كلام الله أمره الله سبحانه وتعالى بإنزاله فعرفه إشارة إلى أنه أكمل الرسل في هذا الوصف باعتبار إرساله إلى جميع الخلائق الذين هم لله سبحانه وتعالى، وأنه الجامع لما تفرق فيهم من الكمال، وأنه المخصوص بما لم يعطه أحد منهم من المزايا والأفضال ‏{‏بما أنزل إليه‏}‏ أي من أن الله سبحانه وتعالى يحاسب بما ذكر وغير ذلك مما أمر بتبليغه ومما اختص هو به ورغب في الإيمان بما آمن به بقوله‏:‏ ‏{‏من ربه‏}‏ أي المحسن إليه بجليل التربية المزكي له بجميل التزكية فهو لا ينزل إليه إلا ما هو غاية في الخير ومنه ما حصل له في دنياه من المشقة‏.‏

قال الحرالي‏:‏ فقبل الرسول هذا الحساب الأول العاجل الميسر ليستوفي أمره منه وحظه في دنياه، قال صلى الله عليه وسلم لما قالت له فاطمة رضي الله تعالى عنها عند موته‏:‏ واكرباه‏!‏‏:‏ «لا كرب على أبيك بعد اليوم» وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله تعالى عنه «ما أوذي أحد في الله ما أوذيت» فنال حظه من حكمة ربه في دنياه حتى كان يوعك كما يوعك عشرة رجال، وما شبع من خبز بر ثلاثاً تباعاً عاجلاً حتى لقي الله؛ وكذلك المؤمن لا راحة له دون لقاء ربه ولا سجن عليه بعد خروجه من دنياه، «الحمى حظ كل مؤمن من النار» انتهى‏.‏ ولما أخبر عن الرأس أخبر عمن يليه فقال‏:‏ ‏{‏والمؤمنون‏}‏ معبراً بالوصف الدال على الرسوخ أي آمنوا بما ظهر لهم من المعجزة التي أثبتت أنه كلام الله سبحانه وتعالى بما دلت على أن الآتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما أجمل فصل فقال مبتدئاً‏:‏ ‏{‏كل‏}‏ أي منهم‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فجمعهم في كلية كأن قلوبهم قلب واحد لم يختلفوا، لأن القبول واحد والرد يقع مختلفاً- انتهى‏.‏ ثم أخبر عن ذلك المبتدأ بقوله‏:‏ ‏{‏آمن بالله‏}‏ أي لما يستحقه من ذلك لذاته لما له من الإحاطة بالكمال ‏{‏وملائكته‏}‏ الذين منهم النازلون بالكتب، لأن الإيمان بالمنزل يستلزم ذلك ‏{‏وكتبه‏}‏ أي كلها ‏{‏ورسله‏}‏ كلهم، من البشر كانوا أو من الملائكة، فإن فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم الإخبار بذلك‏.‏ قال الحرالي‏:‏ انقياداً لامتثال من البشر‏.‏

ولما كان في الناس من يؤمن ببعض الأنبياء ويكفر ببعض قال مؤكداً لما أفهمته صيغة الجمع المضاف من الاستغراق أي قالوا‏:‏ ‏{‏لا نفرق‏}‏ كما فعل أهل الكتاب وعبر بما يشمل الاثنين فما فوقهما فقال‏:‏ ‏{‏بين أحد‏}‏ أي واحد وغيره ‏{‏من رسله‏}‏ أي لا نجعل أحداً منهم على صفة الفرقة البليغة من صاحبه في ذلك بل نؤمن بكل واحد منهم، والذي دل على تقدير «قالوا» دون غيره أنه لما أكمل قولهم في القوة النظرية الكفيلة باعتقاد المبدأ أتبعه قولهم في القوة العملية الكائنة في الوسط عطفاً عليها‏:‏ ‏{‏وقالوا سمعنا‏}‏ أي بآذان عقولنا كل ما يمكن أن يسمع عنك وعلمناه وأذعنا له ‏{‏وأطعنا‏}‏ أي لكل ما فيه من أمرك‏.‏

قال الحرالي‏:‏ فشاركوا أهل الكتاب في طليعة الإباء وخالفوهم في معاجلة التوبة والإقرار بالسمع والطاعة فكان لهؤلاء ما للتائب وعلى أولئك ما على المصر- انتهى‏.‏

ولما كان الإنسان محل الزلل والنقصان أشاروا إلى ذلك تواضعاً منهم كما هو الأولى بهم لمقام الألوهية فقالوا مع طاعتهم معترفين بالمعاد‏:‏ ‏{‏غفرانك‏}‏ أي اغفر لنا أو نسألك غفرانك الذي يليق إضافته إليك لما له من الكمال والشرف والجلال ما قصرنا فيه ولا تؤاخذنا به فإنك إن فعلت ذلك هلكنا، والحاصل أنهم طلبوا أن يعاملهم بما هو أهله لا بما هم أهله فجرى بما جراهم عليه في قوله‏:‏ ‏{‏فيغفر لمن يشاء‏}‏‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فهذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم كشف عيان، ومن المؤمنين نشء إيمان، ومن القائلين للسمع والطاعة قول إذعان، فهو شامل للجميع كل على رتبته- انتهى‏.‏ وزادوا تملقاً بقولهم‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ ذاكرين وصف الإحسان في مقام طلب الغفران‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وهو خطاب قرب من حيث لم يظهر فيه أداة نداء، ولم يجر الله سبحانه وتعالى على ألسنة المؤمنين في كتابه العزيز نداء بُعد قط؛ والغفران فعلان صيغة مبالغة تعطي الملء ليكون غفراً للظاهر والباطن وهو مصدر محيط المعنى نازل منزلة الاستغفار الجامع لما أحاط به الظاهر والباطن مما أودعته الأنفس التي هي مظهر حكمة الله سبحانه وتعالى التي وقع فيها مجموع الغفران والعذاب ‏{‏فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء‏}‏ ففي ضمنه بشرى بتعيين القائلين المذعنين ومن تبعهم بالقول لحال المغفرة، لأن هذه الخواتيم مقبولة من العبد بمنزلة الفاتحة لاجتماعهما في كونهما من الكنز الذي تحت العرش، وعلى ما ورد من قوله‏:‏ «حمدني عبدي- إلى أن قال‏:‏ ولعبدي ما سأل» وعلى ما ورد في دعاء هذا الختم في قوله‏:‏ «قد فعلت قد فعلت» وبما ابتدأ تعالى به آية هذا الحساب وختمها به من سلب الأمر أولاً وسلب القدرة عما سواه آخراً، وكان في الابتداء والختم إقامة عذر القائلين، فوجب لهم تحقق الغفران كما كان لأبيهم آدم حيث تلقى الكلمات من ربه- انتهى‏.‏

ولما كان التقدير بما أرشد إليه ‏{‏ربنا‏}‏‏:‏ فإنه منك مبدأنا، عطف عليه قوله حثاً على الاجتهاد في كل ما أمر به ونهى عنه على وجه الإخلاص‏:‏ ‏{‏وإليك‏}‏ أي لا إلى غيرك ‏{‏المصير‏}‏ أي مطلقاً لنا ولغيرنا‏.‏ وقال ابن الزبير‏:‏ ولما بين سبحانه وتعالى أن الكتاب هو الصراط المستقيم ذكر افتراق الأمم كما يشاء وأحوال الزائغين والمتنكبين تحذيراً من حالهم ونهياً عن مرتكبهم وحصل قبيل النزول بجملته وانحصار التاركين وأعقب بذكر ملتزمات المتقين وما ينبغي لهم امتثاله والأخذ به من الأوامر والأحكام والحدود وأعقب ذلك بأن المرء يجب أن ينطوي على ذلك ويسلم الأمر لمالكه فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏آمن الرسول بما أنزل‏}‏ فأعلم أن هذا إيمان الرسول ومن كان معه على إيمانه وأنهم قالوا‏:‏ ‏{‏سمعنا وأطعنا‏}‏ لا كقول بني إسرائيل‏.‏

‏{‏سمعنا وعصينا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 93‏]‏ وأنه أثابهم على إيمانهم رفع الإصر والمشقة والمؤاخذة بالخطأ والنسيان فقال‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها‏}‏، فحصل من هذه السورة بأسرها بيان الصراط المستقيم على الاستيفاء والكمال أخذاً وتركاً وبيان شرف من أخذ به وسوء حال من تنكب عنه‏.‏ وكان العباد لما علموا ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏- إلى آخر السورة قيل لهم‏:‏ عليكم بالكتاب- إجابة لسؤالهم؛ ثم بين لهم حال من سلك ما طلبوا فكان قيل لهم‏:‏ أهل الصراط المستقيم وسالكوه هم الذين بيّن شأنهم وأمرهم، والمغضوب عليهم من المتنكبين هم اليهود الذين بين أمرهم وشأنهم، والضالون هم النصارى الذين بيّن أمرهم وشأنهم؛ فيجب على من رغب في سلوك الصراط المستقيم أن يحذر ما أصاب هؤلاء مما نبه عليه وأن يأخذ نفسه بكذا وكذا وأن ينسحب إيمانه على كل ذلك، وأن يسلم الأمر لله الذي تطلب منه الهداية، ويتضرع إليه بأن لا يؤاخذه بما يثمره الخطأ والنسيان، وأن لا يحمله ما ليس في وسعه، وأن يعفو عنه- إلى آخر السورة؛ انتهى‏.‏

ولما مُنّوا بالإيمان في سؤال الغفران عللوا السؤال بقولهم‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله‏}‏ أي الملك الأعظم الرحيم الأكرم الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏نفساً إلا وسعها‏}‏ أي ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه، وذلك هو الممكن لذاته الذي يتعلق اختيار العبد بفعله، ولم يخبر الله تعالى بأنه لا يقع لا المحال لذاته ولا الممكن لذاته سواء كان مما لا مدخل للإنسان في اختياره كالنوم أو كان له مدخل فيه وقد تعلق العلم الأزلي بعدم وقوعه وأخبر سبحانه وتعالى بعدم وقوعه معيناً لصاحبه، فهذا لا يقع التكليف به ويجوز التكليف به؛ وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلباً للوفاء بما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه وتعالى خوفاً من أن يكلفوا بما لله سبحانه وتعالى كما دلت عليه الآية وقول المؤمنين عند نزولها وجواب النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن يكلف به من المؤاخذة بالوساوس التي لا يقع العزم عليها لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه فهو من باب‏:‏

إذا أثنى عليك المرء يوماً *** كفاه من تعرضه الثناء

ولعل العدول عن الخطاب إلى الغيبة بذكر الاسم الأعظم من باب التملق بأن له من صفات العظمة ما يقتضي العفو عن ضعفهم ومن صفات الحلم والرحمة والرأفة ما يرفه عنهم ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله سبحانه وتعالى جزاء لهم على قولهم ‏{‏سمعنا وأطعنا‏}‏- الآية، فأفادهم بذلك أنه لا يحاسبهم بحديث النفس الذي لا عزم فيه؛ فانتفى ما شق عليهم من قوله ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم‏}‏- الآية، بخلاف ما أفاد بني إسرائيل قولهم

‏{‏سمعنا وعصينا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 93‏]‏ من الآصار في الدنيا والآخرة، فيكون حينئذ استئنافاً جواباً لمن كأنه قال‏:‏ هل أجاب دعاءهم‏؟‏ ويكون شرح قوله أول السورة‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ ويؤيد هذا الاحتمال اتباعه لحكم ما في الوسع على طريق الاستئناف أو الاستفتاح بقوله‏:‏ ‏{‏لها‏}‏ أي خاصاً بها ‏{‏ما كسبت‏}‏ وذكر الفعل مجرداً في الخير إيماء إلى أنه يكفي في الاعتداد به مجرد وقوعه ولو مع الكسل بل ومجرد نيته‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وصيغة فعل مجردة تعرب عن أدنى الكسب فلذلك من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة- انتهى‏.‏ ‏{‏وعليها‏}‏ أي بخصوصها ‏{‏ما اكتسبت‏}‏ فشرط في الشر صيغة الافتعال الدالة على الاعتمال إشارة إلى أن من طبع النفس الميل إلى الهوى بكليتها وإلى أن الإثم لا يكتب إلاّ مع التصميم والعزم القوي الذي إن كان عنه عمل ظاهر كان بجد ونشاط ورغبة وانبساط، فلذلك من همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وربما جاءت العبارة بخلاف ذلك لمعنى في ذلك السياق اقتضاه المقام‏.‏

ولما بشرهم بذلك عرفهم مواقع نعمه في دعاء رتبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي إعلاماً بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسياناً ولا بما قارفوه خطأ ولا حمل عليهم ثقلاً بل جعل شريعتهم حنيفية سمحاً ولا حملهم فوق طاقتهم مع أن له جميع ذلك، وأنه عفا عن عقابهم ثم سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم، ثم رحمهم بأن أحلهم محل القرب فجعلهم أهلاً للخلافة؛ فلاح بذلك أنه يعلي أمرهم على كل أمر ويظهر دينهم على كل دين، إذ كان سبحانه وتعالى هو الداعي عنهم، وليكون الدعاء كله محمولاً على الإصابة ومشمولاً بالإجابة فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ربنا لا تؤاخذنا‏}‏ أي لا تفعل معنا فعل من يناظر خصماً فهو يناقشه على كل صغير وكبير ‏{‏إن نسينآ‏}‏ أي ففعلنا ما نهيتنا عنه ‏{‏أو أخطأنا‏}‏ أي فعلناه ذاكرين له لكنا لم نتعمد سوءاً‏.‏ قال الحرالي‏:‏ والخطأ هو الزلل عن الحد عن غير تعمد بل مع عزم الإصابة أو ودّ أن لا يخطئ، وفي إجرائه من كلام الله سبحانه وتعالى على لسان عباده قبوله- انتهى‏.‏ وإعادة ربنا في صدر كل جملة من هذا الطراز كما تقدمت الإشارة إليه في التذكير بعظم المقام في حسن التربية ولطف الإحسان والرأفة‏.‏

ولما كان ذلك قد يكون فإن له أن يكلف بما يشاء مع تحميل ما تعظم مشقته من التكاليف فإنه لا يسأل عما يفعل قال‏:‏ ‏{‏ربنا ولا تحمل علينا إصراً‏}‏ أي ثقلاً‏.‏

قال الحرالي‏:‏ هو العهد الثقيل أي الذي في تحمله أشد المشقة- انتهى‏.‏ ثم عظم المنة بقوله‏:‏ ‏{‏كما حملته على الذين من قبلنا‏}‏ إشارة إلى أنه كان حمل على من سبق من الأحكام ما يهدّ الأركان تأكيداً لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا، وأصل الإصر العاطف، أصره الشيء يأصره‏:‏ عطفه، ويلزمه الثقل لأن الغصن إذا ثقل مال وانعطف وهو المقصود هنا؛ وتلك الآصار المشار إليها كثيرة جداً، منها ما في السفر الثاني من التوراة في القربان أنه ينضح من دك الذبيحة على زوايا المذبح، ثم قال‏:‏ ومن تقرب بذبح ثور أو غيره في مكان غير باب قبة الزمان بيت الرب يعاقب ذلك الرجل عقوبة من قتل قتيلاً لأنه سفك دماً ويهلك ذلك الرجل من شعبه، ومن أكل دماً نزل به الغضب وهلك لأن أنفس البهائم هي الدم، وإنما أمروا أن يقربوه على المذبح لغفران خطاياهم وتطهير أنفسهم لأنه إنما يغفر للنفس بالدم، ومن قرب قرباناً أكل منه يوم ذبحه وثانيه، وما بقي في الثالث أحرق بالنار، ومن أكل منه هلك من شعبه؛ ومن ذلك في ذوي العاهات أن من برص من الآدميين يجلس وحده ولا يختلط مع الناس ويكون سكنه خارجاً من محلة بني إسرائيل- حتى ذكر البرص في الثياب والبيوت وغيرها، فما برص من الجلود والثياب يقطع موضع البرص منه، فإن ظهر فيه بعد القطع أحرق كله بالنار، وإن ظهر في بيت برص يهدم وتجمع حجارته وخشبه وترابه خارجاً من القرية ويحرق بالنار؛ وكذا مرض السلس فيه تشديدات كثيرة، منها أن من جلس على ثوب عليه مسلوس يغسل ثيابه ويستحم بالماء ويكون نجساً إلى الليل- ونحو هذا؛ ثم قال‏:‏ وكلم الرب موسى وقال له‏:‏ هذه سنة الأبرص الذي يتطهر‏:‏ يقدم إلى الكاهن ويخرجه خارجاً من العسكر وينظر الحبر إن كانت ضربة البرص قد برأت وتطهر منها يأمر الحبر فيقدم، ويؤتى بعصفورين حيين زكيين، وعود من خشب الأرز، وعهنة حمراء- وعد أشياء أخرى؛ وقرباناً على كيفية مخصوصة صعبة على عين ماء، ويغسل ثيابه وبدنه، ويحلق شعر رأسه ولحيته وحاجبيه وكل شعر جسده، وأنه يمكث خارجاً من بيته سبعة أيام، وفي اليوم الثامن يأتي بقربان آخر فيقرب على كيفية مخصوصة، وينضح الكاهن من دمه على ثياب وبدن هذا الذي تطهر من البرص، وكذا من زيت قربانه، ويصب بقيته على رأسه‏.‏ وكذا في مرض السلس إذا برأ المسلوس يمكث سبعة أيام، ثم يتطهر ويغسل ثيابه، ويقرب قرباناً في باب قبة الزمان‏.‏ وقال‏:‏ وأي رجل أمذى أو خرج منه منيه يغسل جسده كله بالماء، ويكون نجساً إلى الليل؛ ومن دنا من الحائض يكون نجساً إلى الليل وأي ثوب أو فراش وقعت عليه جنابة يغسل بالماء ويكون نجساً إلى الليل وأي ثوب رقدت عليه وهي حائض كان نجساً، ومن دنا من فراشها يغسل ثيابه ويستحم بالماء ويكون نجساً إلى الليل، وكذا المستحاضة‏.‏

وفيه أيضاً‏:‏ وكلم الرب موسى وقال له‏:‏ كلم بني إسرائيل وقل لهم‏:‏ المرأة إذا حبلت وولدت ذكراً تكون نجسة سبعة أيام كما تكون في أيام حيضها، وفي اليوم الثامن يختن الصبي، وتكون نجسة وتجلس مكانها ثلاثة وثلاثين يوماً، لا تدنو من شيء مقدس، ولا تدخل بيت الله سبحانه وتعالى لأن الصلاة محرمة عليها حتى تتم أيام تطهيرها؛ فإن ولدت جارية تكون مثل نجاستها في أيام حيضها أربعة عشر يوماً وتجلس مكانها على الدم الزكي ستة وستين يوماً، فإذا كملت أيام تطهيرها ابناً ولدت أو بنتاً تجيء بحمل حول- فذكر قرباناً في قبة الزمان على يد الكاهن لتطهر مما كان يجري منها من الدم‏.‏ ومن الآصار ما في السفر الثاني أيضاً من أنهم إذا حصدوا أرضاً أو قطفوا كرماً حرم عليهم الاستقصاء وأمروا أن يتركوا للمساكين، ثم قال‏:‏ ولا تلتقطوا ما ينتثر من زيتونكم بل دعوه للمساكين والذين يقبلون إليّ لأني أنا الله ربكم، ثم قال‏:‏ فإذا دخلتم الأرض وغرستم فيها كل شجر يثمر ثماراً تؤكل فدعوها ثلاث سنين ولا تأكلوا من ثمارها، فإذا كان في السنة الرابعة صيروا جميع ثمار شجركم حرمة للرب ومجداً لإكرامه، وفي السنة الخامسة كلوا ثمارها فإنها تنمو وتزداد لكم غلاتها، أنا الله ربكم‏!‏ وقال في أواخر السفر الخامس وهو آخر أسفارها‏:‏ لا تحيفوا على المسكين واليتيم والساكن بينكم في القضاء، ولا تأخذوا ثوب الأرملة رهناً، واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر وأنقذكم الرب من هناك، لذلك آمركم وأقول لكم إنه واجب عليكم أن تفعلوا مثل هذا الفعل، وإذا حصدتم حقل أرضكم ونسيتم حزمة لا ترجعوا في طلب أخذها بل تكون للساكن ولليتيم والأرملة، ليبارك الله ربكم في جميع أعمال أيديكم؛ وإذا نثرتم زيتونكم فلا تطلبوا ما نسيتم في حقلكم بل يكون لليتيم والساكن والأرملة؛ وإذا قطعتم كرومكم لا تستقصوا ما فيها بل دعوها ما يعيش به الساكن واليتيم والأرملة؛ واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر، لذلك آمركم أن تفعلوا هذا الفعل- وأما ما على النصارى من ذلك فسيأتي كثير منه إن شاء الله تعالى في المائدة عند قوله تعالى ‏{‏وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 47‏]‏‏.‏

ولما دعوا بما تضمن الإيمان بما نزل إليهم مما حمل من كان قبلهم من الثقل أتبعوه ما يدل على اعتقادهم أن ذلك عدل منه في القضاء، وأنه له أن يفعل فوق ذلك فيكلف بما ليس في الوسع، لأنه المالك التام المِلك والمَلِك المنفرد بالمُلك، وسألوا التخفيف برفع ذلك فقالوا‏:‏ ‏{‏ربنا ولا‏}‏ وعبر بالتفعيل لما فيه بما يفهم من العلاج من مناسبة التكليف بما لا يطاق فقال‏:‏ ‏{‏تحملنا ما لا طاقة‏}‏ أي قدرة ‏{‏لنا به‏}‏‏.‏

ولما كان الإنسان قد يتعمد الذنب لشهوة تدعوه إليه وغرض يحمله عليه أتبعوا ذلك دعاء عاماً فقالوا‏:‏ ‏{‏واعف عنا‏}‏ أي ارفع عنا عقاب الذنوب كلها ‏{‏واغفر لنا‏}‏ أي ولا تذكرها لنا أصلاً، فالأول العفو عن عقاب الجسم، والثاني العفو عن عذاب الروح‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ ولما كان قد يلحق من يعفى عنه ويغفر له قصور في الرتبة عن منال الحظ من الرحمة ألحق تعالى المعفو عنه المغفور له بالمرحوم ابتداء بقوله‏:‏ ‏{‏وارحمنا‏}‏ أي حتى يستوي المذنب التائب والذي لم يذنب قط في منال الرحمة‏.‏

ولما ضاعف لهم تعالى عفوه ومغفرته ورحمته أنهاهم بذلك إلى محل الخلافة العاصمة ‏{‏لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏ فلما صاروا خلفاء تحقق منهم الجهاد لأعداء الله والقيام بأمر الله ومنابذة من تولى غير الله، فتحقق أنه لا بد أن يشاققهم أعداء وينابذوهم، فعلمهم الذي رحمهم سبحانه إسناد أمرهم بالولاية إليه قائلاً عنهم‏:‏ ‏{‏أنت مولانا‏}‏ والمولى هو الولي اللازم الولاية القائم بها الدائم عليها لمن تولاه بإسناد أمره إليه فيما ليس هو بمستطيع لها- انتهى بالمعنى‏.‏ وكان حقيقته الفاعل لثمرة الولاية وهي القرب والإقبال، وذلك أنهم لما سألوا العفو عن عذاب الجسم والروح سألوا ثوابهما، فثواب الجسم الجنة وثواب الروح لذة الشهود وذلك ثمرة الولاية وهي الإقبال على الولي بالكلية، ثم جعل ختام توجه المؤمنين إلى ربهم الدعاء بثمرة الولاية فقال‏:‏ ‏{‏فانصرنا‏}‏ باللسان والسنان، وأشار إلى قوة المخالفين حثاً على تصحيح الالتجاء والصدق في الرغبة بقوله‏:‏ ‏{‏على القوم‏}‏ وأشار إلى أن الأدلة عليه سبحانه في غاية الظهور لكل عاقل بقوله‏:‏ ‏{‏الكافرين‏}‏ أي الساترين للأدلة الدالة لهم على ربهم المذكورين أول السورة، فتضمن ذلك وجوب قتالهم وأنهم أعدى الأعداء، وأن قوله تعالى ‏{‏لا إكراه في الدّين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 256‏]‏ ليس ناهياً عن ذلك وإنما هو إشارة إلى أن الدّين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة فضلاً عن الإحواج إلى إرهاب، فمن نصح نفسه دخل فيه بما دله عليه عقله، ومن أبى أدخل فيه قهراً بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام ونافذ السهام‏.‏ ولما كان الختم بذلك مشيراً إلى أنه تعالى لما ضاعف لهم عفوه عن الذنب فلا يعاقب عليه ومغفرته له بحيث يجعله كأن لم يكن فلا يذكره أصلاً ولا يعاقب عليه ورحمته في إيصال المذنب المعفو عنه المغفور له إلى المنازل العالية أنهاهم إلى رتبة الخلافة في القيام بأمره والجهاد لأعدائه وإن جل أمرهم وأعنى حصرهم كان منبهاً على أن بداية هذه الصورة هداية وخاتمتها خلافة، فاستوفت تبيين أمر النبوة إلى حد ظهور الخلافة فكانت سناماً للقرآن، وكان جماع ما في القرآن منضماً إلى معانيها إما لما صرحت به أو لما ألاحته وأفهمه إفصاح من إفصاحها كما تنضم هي مع سائر القرآن إلى سورة الفاتحة فتكون أماً للجميع- أفاد ذلك الأستاذ أبو الحسن الحرالي‏.‏

وقد بان بذكر المنزل والإيمان به والنصرة على الكفار بعد تفصيل أمر النفقة والمال الذي ينفق منه رد مقطعها على مطلعها وآخرها على أولها، ومن الجوامع العظيمة في أمرها وشمول معناها المبين لعلو قدرها ما قال الحرالي إنه لما كان منزل هذا القرآن المختص بخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين منزلاً حروفاً محيطة المعاني مخاطباً بها النبي والأئمة وتفصيل آيات مخاطباً به عامة الأمة انتظمت هذه السورة صنفي الخطابين فافتتحت بالم حروفاً منبئة عن إحاطة بما تضمنته معانيها من إحاطة القائم من معنى الألف وإحاطة المقام من معنى الميم وإحاطة الوصلة من معنى اللام؛ ولما كانت الإحاطة في ثلاث رتب إحاطة إلهية قيومية وإحاطة كتابية وإحاطة تفصيلية كانت الإحاطة الخاصة بهذه الأحرف التي افتتحت بها هذه السورة إحاطة كتابية متوسطة، فوقع الافتتاح فيما وقع عليه أمر القرآن في تلاوته في الأرض بالرتبة المتوسطة من حيث هي أقرب للطرفين وأيسر للاطلاع على الأعلى والقيام بالأدنى، فكان ما كان في القرآن من ‏{‏الم تلك آيات الكتاب الحكيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 26‏]‏ ونحوه تفصيل إحاطة من إحاطة الكتاب التي أنزلت فيها سورة البقرة، فكانت مشتملة على إحاطات الكتب الأربعة‏:‏ كتاب التقدير الذي كتبه الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلائق بما شاء الله من أمد وعدد، ورد «أن الله كتب الكتاب وقضى القضية وعرشه على الماء»، و«أن الله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف عام» وأنه قدر الأرزاق قبل أن يخلق الصور بألفي عام- وكثير من ذلك مما ورد في الأخبار؛ وفي مقابلة هذا الكتاب السابق بالتقدير الكتاب اللاحق بالجزاء الذي كتبه الله سبحانه وتعالى ويكتبه أثر تمام الإبداء باستبقاء الأعمال البادية على أيدي الخلق الذين ينالهم النعيم والجحيم والأمن والروع والكشف والحجاب؛ وهذا الكتاب الآخر مطابق للكيان الأول، ويبين بتطرقهما كتاب الأحكام المتضمن لأمر الدين والدعوة الذي وقعت فيه الهداية والفتنة، ثم كتاب الأعمال الذي كتبه الله سبحانه وتعالى في ذوات المكلفين من أفعالهم وأحوال أنفسهم وما كتب في قلوبهم من إيمان أو طبع علهيا أو ختم عليها بفجور أو طغيان؛ فتطابقت الأوائل والأواخر واختلف كتاب الأحكام وكتاب الأعمال بما أبداه الله سبحانه وتعالى من وراء حجاب من معنى الهدى والفتنة والإقدام والإحجام، فتضمنت سورة البقرة إحاطات جميع هذه الكتب واستوفت كتاب الأقدار بما في صدرها من تبيين أمر المؤمنين والكافرين والمنافقين، وكتاب الأفعال كما ذكر سبحانه وتعالى أمر الختم على الكافرين والمرض في قلوب المنافقين، وما يفصل في جميع السورة من أحكام الدين وما يذكر معها مما يناسبها من الجزاء من ابتداء الإيمان إلى غاية الإيقان الذي انتهى إليه معنى السورة فيما بين الحق والخلق من أمر الدين، وفيما بين الخلق والخلق من المعاملات والمقاومات، وفيما بين المرء ونفسه من الأيمان والعهود، إلى حد ختمها بما يكون من الحق للخلق في استخلاف الخلفاء الذين ختم بذكرهم هذه السورة الذين قالوا‏:‏ ‏{‏غفرانك ربنا‏}‏ إلى انتهائها؛ ولما كان مقصود هذه السورة الإحاطة الكتابية كان ذلك إفصاحها ومعظم آياتها وكانت الإحاطة الإلهية القيومية إلاحتها ونور آياتها، فكان ذلك في آية الكرسي تصريحاً وفي سائر آيها الإحة بحسب قرب الإحاطة الكتابية من الإحاطة الإلهية، وفي بدء سابق أو ختم لاحق أو حكمة جامعة، فلذلك انتظم بالسورة التي ذكرت فيها البقرة السورة التي يذكر فيها آل عمران، لما نزل في سورة آل عمران من الإحاطة الإلهية حتى كان في مفتتحها اسم الله الأعظم، فكان ما في البقرة إفصاحاً في سورة آل عمران إلاحة، وكان ما في البقرة إلاحة في سورة آل عمران إفصاحاً، إلا ما اطلع في كل واحدة منهما من تصريح الأخرى؛ فلذلك هما سورتان مرتبطتان وغيايتان وغمامتان تظلان صاحبهما يوم القيامة، وبما هما من الذكر الأول وبينهما من ظاهر التفاوت ما بين الإحاطة الكتابية وبين الإحاطة الإلهية فلذلك كانت سورة البقرة سناماً له والسنام أعلى ما في الحيوان المنكب وأجمله جملة وهو البعير، وكانت سورة آل عمران تاج القرآن والتاج هو أعلى ما في المخلوقات من الخلق القائم المستخلف في الأرض ظاهره وفي جميع المكون إحاطته؛ فوقع انتظام هاتين السورتين على نحو من انتظام الآي يتصل الإفصاح في الآية بإلاحة سابقتها كما تقدم التنبيه عليه في مواضع- انتهى‏.‏

وسر ترتيب سورة السنام على هذا النظام أنه لما افتتحها سبحانه وتعالى بتصنيف الناس الذين هم للدين كالقوائم الحاملة لذي السنام فاستوى وقام ابتداء المقصود بذكر أقرب السنام إلى أفهام أهل القيام فقال مخاطباً لجميع الأصناف التي قدمها ‏{‏يا أيها الناس اعبدوا ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ واستمر إلى أن بان الأمر غاية البيان فأخذ يذكر مننه سبحانه على الناس المأمورين بالعبادة بما أنعم عليهم من خلق جميع ما في الوجود لهم بما أكرم به أباهم آدم عليه الصلاة والسلام، ثم خص العرب ومن تبعهم ببيان المنة عليهم في مجادلة بني إسرائيل وتبكيتهم، وهو سبحانه وتعالى يؤكد كل قليل أمر الربوبية والتوحيد بالعبادة من غير ذكر شيء من الأحكام إلا ما انسلخ منه بنو إسرائيل، فذكره على وجه الامتنان به على العرب وتبكيت بني إسرائيل بتركه لا على أنه مقصود بالذات، فلما تزكوا فترقوا فتأهلوا لأنواع المعارف قال معلياً لهم من مصاعد الربوبية إلى معارج الإلهية

‏{‏وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 163‏]‏ فلما تسنموا هذا الشرف لقنهم العبادات المزكية ونقاهم أرواحها المصفية فذكر أمهات الأعمال أصولاً وفروعاً الدعائم الخمس والحظيرة وما تبع ذلك من الحدود في المآكل والمشارب والمناكح وغير ذلك من المصالح فتهيؤوا بها وأنها المواردات الغر من ذي الجلال فقال مرقياً لهم إلى غيب حضرته الشماء ذاكراً مسمى جميع الأسماء ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ ولما كان الواصل إلى أعلى مقام الحرية لا بد عند القوم من رجوعه إلى ربقة العبودية ذكر لهم بعض الأعمال اللائقة بهم، فحث على أشياء أكثرها من وادي الإحسان الذي هو مقام أولي العرفان، فذكر مثل النفقة التي هي أحد مباني السورة عقب ما ذكر مقام الطمأنينة إيذاناً بأن ذلك شأن المطمئن، ورغب فيها إشارة إلى أنه لا مطمع في الوصول إلا بالانسلاخ من الدنيا كلها، وأكثر من الحث على طيب المطعم الذي لا بقاء بحال من الأحوال بدونه، ونهى عن الربا أشد نهي إشارة إلى التقنع بأقل الكفاف ونهياً عن مطلق الزيادة للخواص وعن كل حرام للعوام، وأرشد إلى آداب الدين الموجب للثقة بما عند الله المقتضي بصدق التوكل المثمر للعون من الله سبحانه وتعالى والإرشاد إلى ذلك، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو متلبس به؛ وبنى سبحانه وتعالى كل ثلث من هذه الأثلاث على مقدمة في تثبيت أمره وتوجه بخاتمة في التحذير من التهاون به، وزاد الثالث لكونه الختام وبه بركة التمام أن أكد عليهم بعد خاتمته في الإيمان بجميع ما في السورة، وختم بالإشارة إلى أن عمدة ذلك الجهاد الذي لذوي الغي والعناد، والاعتماد فيه على مالك الملك وملك العباد، وذلك هو طريق أهل الرشاد، والهداية والسداد والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب‏.‏

سورة آل عمران

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ‏(‏2‏)‏ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏3‏)‏ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏4‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏بسم الله‏}‏ الواحد المتفرد بالإحاطة بالكمال ‏{‏الرحمن‏}‏ الذي وسعت رحمة ايجاد كل مخلوق وأوضح للمكلفين طريق النجاة ‏{‏الرحيم‏}‏ الذي اختار أهل التوحيد لمحل أنسه وموطن جمعه وقدسه ‏{‏الم *‏}‏ المقاصد التي سيقت لها هذه السورة إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى، والإخبار بأن رئاسة الدنيا بالأموال والأولاد وغيرهما مما آثره الكفار على الإسلام غير مغنية عنهم شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة، وأن ما أعد للمتقين من الجنة والرضوان هو الذي ينبغي الأقبال عليه والمسارعة اليه وفي وصف المتقين بالإيمان والدعاء والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار ما يتعطف عليه كثير من أفانين أساليب هذه السورة هذا ما كان ظهر لي أولاً، وأحسن منه أن نخص القصد الأول وهو التوحيد بالقصد فيها فإن الأمرين الآخرين يرجعان إليه، وذلك لأن الوصف بالقيومية يقتضي القيام بالاستقامة، فالقيام يكون على كل نفس، والاستقامه العدل كما قال‏:‏ ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ أي بعقاب العاصي وثواب الطائع بما يقتضي للموفق ترك العصيان ولزوم الطاعة؛ وهذا الوجه أوفق للترتيب، لأن الفاتحة لما كانت جامعة للدين إجمالاً جاء به التفصيل محاذياً لذلك، فابتدئ بسورة الكتاب المحيط بأمر الدين، ثم بسورة التوحيد الذي هو سر حرف الحمد وأول حروف الفاتحة، لأن التوحيد هو الأمر الذي لا يقوم بناء إلا عليه، ولما صح الطريق وثبت الأساس جاءت التي بعدها داعية إلى الاجتماع على ذلك؛ وأيضاً فلما ثبت بالبقرة أمر الكتاب في أنه هدى وقامت به دعائم الإسلام الخمس جاءت هذه لإثبات الدعوة الجامعة في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اعبدوا ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ فأثبت الوحدانيه له بإبطال إلهيه غيره بإثبات أن عيسى عليه الصلاة والسلام الذي كان يحيي الموتى عبده فغيره بطريق الأولى، فلما ثبت أن الكل عبيده دعت سورة النساء إلى إقبالهم إليه واجتماعهم عليه؛ ومما يدل على أن القصد بها هو التوحيد تسميتها بآل عمران، فإن لم يعرب عنه في هذه السورة ما أعرب عنه ما ساقه سبحانه وتعالى فيها من أخبارهم بما فيها من الأدلة على القدرة التامة الموجبة للتوحيد الذي ليس في درج الإيمان أعلى منه، فهو التاج الذي هو خاصة الملك المحسوسة، كما أن التوحيد خاصته المعقولة، والتوحيد موجب لزهرة المتحلي به فلذلك سميت الزهراء‏.‏

القصد الأول التوحيد

ومناسبه هذا الأول بالإبتدائيه لآخر ما قبلها أنه لما كان آخر البقرة في الحقيقة آية الكرسي وما بعدها إنما هو بيان، لأنها أوضحت أمر الدين بحيث لم يبقى وراءها مرمى لمتنعت، أو تعجب من حال من جادل في الإلهية أو استبعد شيئاً من القدرة ولم ينظر فيما تضمنته هذه الآية من الأدله مع وضوحه، أو إشارة إلى الاستدلال على البعث بأمر السنابل في قالب الإرشاد إلى ما ينفع في اليوم الذي نفى فيه نفع البيع والخلة والشفاعة من النفقات، وبيان بعض ما يتعلق بذلك، وتقرير أمر ملكه لما منه الإنفاق من السماوات والأرض، والإخبار بإيمان الرسول وأتباعه بذلك، وبأنهم لا يفرقون بين أحد من الرسل المشار إليهم في السورة، وبصدقهم في التضرع برفع الأثقال التي كانت على من قبلهم من بني إسرائيل وغيرهم، وبالنصرة على عامة الكافرين؛ لما كان ذلك على هذا الوجه ناسب هذا الاختتام غايه المناسبة ابتداء هذه السورة بالذي وقع الإيمان به سبحانه وتعالى ووجهت الرغبات آخر تلك إليه؛ وأحسن منه أنه لما نزل إلينا كتابه فجمع مقاصده في الفاتحه على وجه أرشد فيه إلى سؤال الهداية ثم شرع في تفصيل ما جمعه في الفاتحة، فأرشد في أول البقرة إلى أن الهدايه في هذا الكتاب، وبيّن ذلك بحقية المعنى والنظم كما تقدم إلى أن ختم البقرة بالإخبار عن خلص عباده بالإيمان بالمنزل بالسمع والطاعة، وأفهم ذلك مع التوجه بالدعاء إلى المنزل له أن له سبحانه وتعالى كل شيء وبيده النصر، علم أنه واحد لا شريك له حي لا يموت قيوم لا يغفل وأن ما أنزل هو الحق، فصرح أول هذه بما أفهمه آخر تلك، كما يصرح بالنتيجة بعد المقدمات المنتجة لها فقال‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الذي لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه لأن له الإحاطة بجميع أوصاف الكمال والنزاهة الكاملة من كل شائبة نقص‏.‏

وقال الحرالي مشيراً إلى القول الصحيح في ترتيب السور من أنه باجتهاد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إقراراً لله سبحانه وتعالى لهذا الانتظام والترتيب السوري في مقرر هذا الكتاب‏:‏ هو ما رضيه الله سبحانه وتعالى فأقره؛ فلما كانت سورة الفاتحة جامعة لكلية أمر الله سبحانه وتعالى فيما يرجع إليه، وفيما يرجع إلى عبده، وفيما بينه وبين عبده، فكانت أم القرآن وأم الكتاب؛ جعل مثنى تفصيل ما يرجع منها إلى الكتاب المنبأ عن موقعه في الفاتحة مضمناً سورة البقرة إلى ما أعلن به، لألأ نور آية الكرسي فيها، وكان منزل هذه السورة من مثنى تفصيل ما يرجع إلى خاص علن الله سبحانه وتعالى في الفاتحة، فكان منزلة سورة آل عمران منزله تاج الراكب وكان منزله سورة البقرة منزلة سنام المطية؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة، لكل شيء تاج وتاج القرآن سورة آل عمران» وإنما بدئ هذا الترتيب لسورة الكتاب لأن علم الكتاب أقرب إلى المخاطبين من تلقي علن أمر الله، فكان في تعلم سورة البقرة والعمل بها تهيؤ لتلقي ما تضمنته سورة آل عمران ليقع التدرج والتدرب بتلقي الكتاب حفظاً وبتلقيه على اللقن منزل الكتاب بما أبداه علنه في هذه السورة؛ وبذلك يتضح أن إحاطة ‏{‏الم‏}‏ المنزلة في أول سورة البقرة إحاطة كتابية بما هو قيامه وتمامه، ووصلة ما بين قيامه وتمامه، وأن إحاطة ‏{‏الم‏}‏ المنزلة في أو هذه السورة إحاطة إلهية حيايية قومية مما بين غيبة عظمة اسمه ‏{‏الله‏}‏ إلى تمام قيوميته البادية في تبارك ما أنبأ عنه اسمه ‏{‏الحي القيوم‏}‏ وما أوصله لطفه من مضمون توحيده المنبئ عنه كلمه الإخلاص في قوله‏:‏ ‏{‏لا إله الا هو‏}‏ فلذلك كان هذا المجموع في منزله قرآناً حرفياً وقرآناً كلمياً اسمياً وقرآناً كلامياً تفصيليا مما هو اسمه الأعظم كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين‏:‏ ‏{‏وإلهكم أله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 163‏]‏، ‏{‏الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏» وكما وقعت إلاحة في سورة البقرة لما وقع بها الإفصاح في سورة آل عمران كذلك وقع في آل عمران من نحو ما وقع تفصيله في سورة البقرة ليصير منزلاً واحداً بما أفصح مضمون كل سورة بالإحة الأخرى، فلذلك هما غمامتان وغيايتان على قارئهما يوم القيامة كما تقدم لا تفترقان، فأعظم ‏{‏الم‏}‏ هو مضمون ‏{‏الم‏}‏ الذي افتتحت به هذه السورة ويليه في الرتبة ما افتتحت به سورة البقرة، ويليه في الرتبة ما افتتحت به سور الآيات نحو قوله سبحانه وتعالى ‏{‏الم تلك آيات الكتاب الحكيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 2‏]‏ فللكتاب الحكيم إحاطة قواماً وتماماً ووصلة، ولمطلق الكتاب إحاطة كذلك، وإحاطه الإحاطات وأعظم العظمة إحاطة افتتاح هذه السورة؛ وكذلك أيضاً اللواميم محيطة بإحاطة الطواسيم لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف اللواميم، وإحاطة الحواميم من دون إحاطة الطواسيم لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف الطواسيم على ما يتضح تراتبه وعلمه لمن آتاه الله فهماً بمنزله قرآن الحروف المخصوص بإنزاله هذه الأمة دون سائر الأمم، الذي هو من العلم الأزلي العلوي؛ ثم قال‏:‏ ولما كانت أعظم الإحاطات إحاطة عظمة اسمه «الله» الذي هو مسمى التسعة والتسعين أسماء التي أولها ‏{‏إله‏}‏ كان ما أفهمه أول الفهم هنا اسم ألف بناء في معنى إحاطات الحروف على نحو إحاطة اسمه «الله» في الأسماء، فكانت هذه الألف مسمى كل ألف كما كان اسمه ‏{‏الله‏}‏ سبحانه وتعالى مسمى كل اسم سواه حتى أنه مسمى سائر الأسماء الأعجمية التي هي أسماؤه سبحانه وتعالى في جميع الألسن كلها مع أسماء العربية أسماء لمسمى هو هذا الاسم العظيم الذي هو ‏{‏الله‏}‏ الأحد الذي لم يتطرق إليه شرك، كما تطرق إلى أسمائه من اسمه ‏{‏إله‏}‏ إلى غايه اسمه «الصبور» وكما كان إحاطة هذا الألف أعظم إحاطة حرفية وسائر الألفات أسماء لعظيم إحاطتة؛ وكذلك هذه الميم أعظم إحاطة ميم تفصلت فيه وكانت له أسماء بمنزلة ما هي سائر الألفات أسماء لمسمى هذا الألف كذلك سائر الميمات اسم لمسمى هذا الميم، كما أن اسمه ‏{‏الحي القيوم‏}‏ أعظم تمام كل عظيم من أسماء عظمته؛ وكذلك هذه اللام بمنزلة ألفه وميمه، وهي لام الإلهية الذي أسراره لطيف التنزل إلى تمام ميم قيوميته؛ فمن لم ينته إلى فهم معاني الحروف في هذه الفاتحة نزل له الخطاب إلى ما هو إفصاح إحاطتها في الكلم والكلام المنتظم في قوله‏:‏ ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏، فهو قرآن حرفي يفصله قرآن كلمي يفصله قرآن كلامي انتهى‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الذي آمن به الرسول وأتباعه بما له من الإحاطة بصفات الكمال ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ أي متوحد لا كفوء له فقد فاز قصدكم إليه بالرغبة وتعويلكم عليه في المسألة‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فما أعلن به هذا الاسم العظيم أي الله في هذه الفاتحة هو ما استعلن به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏، ولما كان إحاطة العظمة أمراً خاصاً لأن العظمة إزاء الله الذي لا يطلع عليه إلا صاحب سر كان البادي لمن دون أهل الفهم من رتبة أهل العلم اسمه «الله الصمد» الذي يعنى اليه بالحاجات والرغبات المختص بالفوقية والعلو الذي يقال للمؤمن عنه‏:‏ أين الله‏؟‏ فيقول‏:‏ في السماء، إلى حد علو أن يقول‏:‏ فوق العرش، فذلك الصمد الذي أنبأ عنه اسمه ‏{‏إله‏}‏ الذي أنزل فيه إلزام الإخلاص والتوحيد منذ عبدت في الأرض الأصنام، فلذلك نضم توحيد اسمه الإله بأحدية مسمى هو من اسمه العظيم «الله»، ورجع عليه باسم المضمر الذي هو في جبلات الأنفس وغرائز القلوب الذي تجده غيباً في بواطنها فتقول فيه‏:‏ هو، فكان هذا الخطاب مبدوءاً بالاسم العظيم المظهر منتهياً إلى الاسم المضمر، كما كان خطاب ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ مبدوءاً بالاسم المضمر منتهياً إلى الاسم العظيم المظهر، وكذلك أيضاً اسم الله الأعظم في سورة ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ كما هو في هذه الفاتحة‏.‏

ولما كان لبادي الخلق افتقار إلى قوام لا يثبت طرفة عين دون قوامه كان القوام البادي آيته هي الحياة فما حيي ثبت وما مات فني وهلك؛ انتهى ولما كان المتفرد بالملك من أهل الدنيا يموت قال‏:‏ ‏{‏الحي‏}‏ أي الحياة الحقيقية التي لا موت معها‏.‏ ولما كان الحي قد يحتاج في التدبير إلى وزير لعجزه عن الكفاية بنفسه في جميع الأعمال قال‏:‏ ‏{‏القيوم *‏}‏ إعلاماً بأن به قيام كل شيء وهو قائم على كل شيء‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فكما أن الحياة بنفخة من روح أمره فكل متماسك على صورته حي بقيوميته انتهى‏.‏

وفي وصفه بذلك إعلام بأنه قادر على نصر جنده وإعزاز دينه وعون وليه، وحث على مراقبته بجهاد أعدائه ودوام الخضوع لديه والضراعة اليه‏.‏ ولما كان من معنى القيوم أنه المدبر للمصالح اتصل به الإعلام بتنزيل ما يتضمن ذلك، وهو الكتاب المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏بما أنزل إليه من ربه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏ والكتب المذكورة في أول البقرة في قوله‏:‏ ‏{‏بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4‏]‏ وفي آخرها بقوله ‏{‏وكتبه ورسله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏ التي من جملتها التوراة والإنجيل اللذان فيهما الآصار المرفوعة عنا، ثم شرح بعده أمر التصوير في الأحشاء، وذلك لأن المصالح قسمان‏:‏ روحانية وجسمانية، وأشرف المصالح الروحانية العلم الذي هو الروح كالروح للبدن فإنها تصير به مرآة مجلوة ينجلي فيها صور الحقائق، وأشرف المصالح الجسمانية تعديل المزاج وتسوية البنية في أحسن هيئة، وقدم الروحانية المتكفل بها الكتاب لأنها أشرف‏.‏

ولما كانت مادة «كتب» دائرة على معنى الجمع عبر بالتنزيل الذي معناه التفريق لتشمل هذه الجملة على وجازتها من أمره على إجمال وتفصيل فقال‏:‏ وقال الحرالي‏:‏ ولما كانت إحاطة الكتاب أي في البقرة ابتداء وأعقبها أي في أول هذه السورة إحاطة الإلهية جاء هذا الخطاب رداً عليه، فتنزل من الإحاطة الإلهية إلى الأحاطة الكتابية بالتنزيل الذي هو تدرج من رتبة إلى رتبة دونها؛ انتهى فقال‏:‏ ‏{‏نزّل‏}‏ أي شيئاً فشيئاً في هذا العصر ‏{‏عليك‏}‏ أي خاصة بما اقتضاه تقديم الجار من الحصر، وكأن موجب ذلك ادعاء بعضهم أنه يوحي إليه وأنه يقدر على الإتيان بمثل هذا الوحي ‏{‏الكتاب‏}‏ أي القرآن الجامع للهدى منجماً بحسب الوقائع، لم يغفل عن واحدة منها ولا قدم جوابها ولا أخره عن محل الحاجة، لأنه قيوم لا يشغله شأن عن شأن‏.‏

قال الحرالي‏:‏ وهذا الكتاب هو الكتاب المحيط الجامع الأول الذي لا ينزل إلا على الخاتم الآخر المعقب لما أقام به حكمته من أن صور الأواخر مقامة بحقائق الأوائل، فأول الأنوار الذي هو نور محمد صلى الله عليه وسلم هو قثم خاتم الصور التي هي صورة محمد انتهى‏.‏ تنزيلاً ملتبساً ‏{‏بالحق‏}‏ أي الأمر الثابت، فهو ثابت في نفسه، وكل ما ينشأ عنه من قول وفعل كذلك‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وكما أن هذا الكتاب هو الكتاب الجامع الأول المحيط بكل كتاب كذلك هو الحق المنزل به هذا الكتاب هو الحق الجامع المحيط الذي كل حق منه، وهو الحق الذي أقام به حكمته فيما رفع ووضع انتهى‏.‏ حال كونه ‏{‏مصدقاً‏}‏ ولما كان العامل مرفوعاً لأنه أمر فاعل قواه في اللام فقال‏:‏ ‏{‏لما بين يديه‏}‏ أي من الكتب السماوية التي أتت بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عن الحضرة الإلهية‏.‏

قال الحرالي‏:‏ لما كان هذا الكتاب أولاً وجامعاً ومحيطاً كان كل كتاب بين يديه ولم يكن من ورائه كتاب انتهى‏.‏

ولما كان نزاع وفد ونجران في الإله أو النبي أو فيهما كان هذا الكلام كفيلاً على وجازتة بالرد عليهم في ذلك ببيان الحق في الإله بالقيومية، وفي المعنى بالكتاب المعجز، ولما كانوا مقرين بالكتب القديمة أشار إلى أن ليس لهم إنكار هذا الكتاب وهو أعلى منها في كل أمر أوجب تصديقها وإلى أن من أنكره بعد ذلك كان من الأمر الظاهر أنه معاند لا شك في عناده فقال‏:‏ ‏{‏وأنزل التوراة‏}‏ وهو «فوعلة» لو صرفت من الورى وهو قدح النار من الزند، استثقل اجتماع الواوين فقلب أولهما تاء كما في اتحاد واتّلاج واتّزار واتّزان ونحوه قال الحرالي‏:‏ فهي توراة بما هي نور أعقبت ظلام ما وردت عليه من كفر دعي إليها من الفراعنة، فكان فيها هدى ونور ‏{‏والإنجيل *‏}‏ من النجل، وضع على زيادة «إفعيل» لمزيد معنى ما وضعت له هذة الصيغة، وزيادتاها مبالغه في المعنى، وأصل النجل استخراج خلاصه الشيء، ومنه يقال للولد‏:‏ نجل أبيه‏.‏ كان الإنجيل استخلص خلاصه نور التوراة فأظهر باطن ما شرع في التوراة ظاهرة، فإن التوراة كتاب إحاطة لأمر الظاهر الذي يحيط بالأعمال وإصلاح أمر الدنيا وحصول الفوز من عاقبة يوم الأخرى فهو جامع إحاطة الظواهر، وكل آية ظاهرة فمن كتاب التوراة والإنجيل كتاب إحاطة لأمر البواطن يحيط بالأمور النفسانية التي بها يقع لمح موجود الآخرة مع الإعراض عن إصلاح الدنيا بل مع هدمها، فكان الإنجيل مقيماً لأمر الآخرة هادماً لأمر الدنيا مع حصوله أدنى بلغة، وكانت التوراة مقيمة لإصلاح الدنيا مع تحصيل الفوز في الآخرة، فجمع هذان الكتابان إحاطتي الظاهر والباطن، فكان منزل التوراة من مقتضى اسمه الظاهر، وكان منزل الإنجيل من مقتضى اسمه الباطن، كما كان منزل الكتاب الجامع من مقتضى ما في أول هذه السورة من أسمائه العظيمة مع لحظ التوحيد ليعتبر الكتاب والسورة بما نبه بتنزيله من اسمه الله وسائر أسمائه على وجوه إحاطاتها انتهى وفيه تصرف؛ فأحاط هذا الكتاب إحاطة ظاهرة بأمري الظاهر والباطن بما أذن منه تصديقه للكتابين، وخصهما سبحانه وتعالى بالتنويه بذكرهما إعلاماً بعلي قدرهما‏.‏

ولما لم يكن إنزالهما مستغرقاً للماضي لأنه لم يكن في أول الزمان أدخل الجار معرياً من التقيد بمن نزلا عليه لشهرته وعدم النزاع بخلاف القرآن ‏{‏من قبل‏}‏ أي من قبل هذا الوقت إنزالاً انقضى أمره ومضى زمانه حال كون الكل ‏{‏هدى‏}‏ أي بياناً، ولذا عم فقال‏:‏ ‏{‏للناس‏}‏ وأما في أول البقرة فبمعنى خلق الهداية في القلب، فلذا خص المتقين؛ والحاصل أن هذه الآية كالتعليل لآخر البقرة فكأنه قيل‏:‏ كل آمن بالله لأنه متفرد بالألوهية، لأنه متفرد بالحياة، لأنه متفرد بالقيومية؛ وآمن برسله الذين جاؤوا بكتبه المنزلة بالحق من عنده بواسطة ملائكته‏.‏

ولما كانت مادة «فرق» للفصل عبر بالإنزال الذي لا يدل على التدريج لما تقدم من إرادة الترجمة بالإجمال والتفصيل على غاية الإيجاز لاقتضاء الإعجاز، وجمع الكتابين في إنزال واحد واستجد لكتابنا إنزالاً تنبيهاً على علو رتبته عنهما بمقدار علو رتبه المتقين الذين هو هدى لهم، وبتقواهم يكون لهم فرقان على رتبة الناس الذين هما هدى لهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزل الفرقان *‏}‏ أي الكتاب المصاحب للعز الذي يكسب صاحبه قوة التصرف فيما يريد من الفصل والوصل الذي هو وظيفه السادة المرجوع إليهم عند الملمات، المقترن بالمعجزات الفارقة بين الحق والباطل، وسترى هذا المعنى إن شاء الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال بأوضح من هذا؛ فعل ذلك لينفذ قائله أمر الكتاب المقرر فيه الشرع الحق المباين لجميع الملل الباطلة والأهواء المضلة والنحل الفاسدة، وذلك هو روح النصر على أعداء الله المرشد إلى الدعاء به ختام البقرة‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فكان الفرقان جامعاً لمنزل ظاهر التوراة ومنزل باطن الإنجيل جمعاً يبدي ما وراء منزلهما بحكم استناده للتقوى التي هي تهيؤ لتنزل الكتاب ‏{‏إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا‏}‏ ‏[‏الانفال‏:‏ 29‏]‏ فكان الفرقان أقرب الكتب للكتاب الجامع، فصار التنزيل في ثلاث رتب‏:‏ رتبة الكتاب المنزل بالحق الجامع، ثم رتبة الفرقان المظهر لمحل الجمع بين الظاهر والباطن، ثم منزل التوراة والإنجيل المختفي فيه موضع ظاهر التوراة بباطن الإنجيل انتهى‏.‏

ومناسبة ابتدائها بالتوحيد لما في أثنائها أنه لما خلق عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى فقط وهي أدنى أسباب النماء كان وجوده إشارة إلى أن الزيادة قد انتهت، وأن الخلق أخذ في النقصان، وهذا العالم أشرف على الزوال، فلم يأت بعده من قومه نبي بل كان خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكان هذا النبي الذي أتى بعده من غير قومه خاتم الأنبياء مطلقاً، وكان مبعوثاً مع نفس الساعة، وكان نزوله هو آخر الزمان علماً على الساعة، وصدرت هذه السورة التي نزل كثير منها بسببه بالوحدانية إشارة إلى أن الوارث قد دنا زمان إرثه، وأن يكون ولا شيء معه كما كان، وأن الحين الذي يتمحض فيه تفرد الواحد قد حان، والآن الذي يقول فيه سبحانه له الملك اليوم قد آن؛ ويوضح ذلك أنه لما كان آدم عليه الصلاه والسلام مخلوقاً من التراب الذي هو أمتن أسباب النماء، وهو غالب على كل ما جاوره، وكانت الأنثى مخلوقة من آدم الذي هو الذكر وهو أقوى سببي التناسل كان ذلك إشارة إلى كثرة الخلائق ونمائهم وازديادهم، فصدر أول سورة ذكر فيها خلقه وابتداء أمره بالكتاب إشارة إلى أن ما يشير إليه ذكره من تكثر الخلائق وانتشار الأمم والطوائف داع إلى إنزال الشرائع وإرسال الرسل بالأحكام والدلائل، فالمعنى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما كان منه الابتداء وعيسى عليه الصلاة والسلام لما كان دليلاً على الانتهاء اقتضت الحكمة أن يكون كل منهما مما كان منه، وأن تصدر سورة كل بما صدرت به والله سبحانه وتعالى الموفق‏.‏

وقال ابن الزبير ما حاصله‏:‏ إن اتصالها بسورة البقرة والله سبحانه وتعالى أعلم من جهات‏:‏ إحداها ما تبين في صدر السورة مما هو إحالة على ما ضمن في سورة البقرة بأسرها، ثانيها الإشارة في صدر السورة أيضاً إلى أن الصراط المستقيم قد تبين شأنه لمن تقدم في كتبهم، فإن هذا الكتاب جاء مصدقاً لما نزل نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه، فهو بيان لحال الكتاب الذي هو هدى للمتقين، ولما بين افتراق الأمم بحسب السابقة إلى أصناف ثلاثة، وذكر من تعنت بني إسرائيل وتوقفهم ما تقدم أخبر سبحانه وتعالى هنا أنه أنزل عليهم التوراة، وأنزل بعدها الإنجيل، وأن كل ذلك هدى لمن وفق، إعلاماً منه سبحانه وتعالى لأمه محمد صلى الله عليه وسلم أن من تقدمهم قد بين لهم ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏؛ والثالثة قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وابتداء أمره من غير أب والاعتبار به نظير الاعتبار بآدم عليه الصلاة والسلام ولهذا أشار قوله سبحانه وتعالى ‏{‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ انتهى‏.‏

ولما علم بذلك أمر القيوم سبحانه وتعالى بالحق وهو الإيمان علم أن لمخالفي أمره من أضداد المؤمنين الموصوفين وهم الكفرة المدعو بخذلانهم المنزل الفرقان لمحو أديانهم الويل والثبور، فاتصل بذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ أي غطوا ما دلتهم عليه الفطرة الأولى التي فطرهم الله سبحانه وتعالى عليها، ثم ما بينت لهم الرسل عليهم الصلاة والسلام عنه سبحانه وتعالى من البيان الذي لا لبس معه ‏{‏بآيات الله‏}‏ المستجمع لصفات الكمال إقبالاً منهم على ما ليس له أصلاً صفة كمال، وهذا الكفر كما قال الحرالي دون الكفر بأسماء الله الذي هو دون الكفر بالله، قال‏:‏ فكما بدأ خطاب التنزيل من أعلاه نظم به ابتداء الكفر من أدناه انتهى‏.‏ ‏{‏لهم عذاب شديد‏}‏ كما تقتضيه صفتا العزة والنقمة، وفي وصفه بالشدة إيذان بأن من كفر دون هذا الكفر كان له مطلق عذاب‏.‏ قال الحرالي‏:‏ ففي إشعاره أن لمن داخله كفر ما حط بحسب خفاء ذلك الكفر، فأفصح الخطاب بالأشد وألاح بالأضعف انتهى‏.‏ والآية على تقدير سؤال ممن كأنه قال‏:‏ ماذا يفعل بمن أعرض عن الكتب الموصوفة‏؟‏ أو يقال‏:‏ إنه لما قال‏:‏ ‏{‏وأنزل الفرقان‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 4‏]‏ أي الفارق بين الحق والباطل من الآيات والأحكام عليك وعلى غيرك من الأنبياء لم يبق لأحد شبهة فقال‏:‏ وأحسن من ذلك كله أنه سبحانه وتعالى ولما أنزل سورة البقرة على طولها في بيان أن الكتاب هدى للمتقين، وبين أن أول هذه وحدانيته وحياته وقيوميته الدالة على تمام العلم وشمول القدرة، فأنتج ذلك صدق ما أخبر به سبحانه وتعالى، أيد ذلك بالإعلام بأن ذلك الكتاب مع أنه هاد اليه حق، ودل على ذلك لمصادقته لما قبله من الكتب‏.‏

ولما ختم أوصافه بأنه فرقان لا يدع لبساً ولا شبهة أنتج ذلك قطعاً أن الذين قدم أول تلك أنهم أصروا على الكفر به خاسرون، فأخبر سبحانه وتعالى بما أعد لهم من العذاب فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين‏}‏ مؤكداً مظهراً لما كان من حقه الإضمار، لولا إرادة تعليق الحكم بالوصف وهو الكفر أي الستر لما تفضل عليهم به من الآيات؛ ثم قرر قدرته على ما هدد به وعبر به فقال‏:‏ عاطفاً على ما أرشد السياق مع العطف على غير مذكور إلى أنه‏:‏ فالله سبحانه وتعالى عالم بما له من القيومية بجميع أحوالهم‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الملك العظيم مع كونه رقيباً ‏{‏عزيز‏}‏ لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء ‏{‏ذو انتقام *‏}‏ أي تسلط وبطش شديد بسطوة‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فأظهر وصف العزة موصولاً بما أدام من انتقامه بما يعرب عنه كلمة ذو المفصحة بمعنى صحبة ودوام، فكأن في إشعاره دواماً لهذا الانتقام بدوام أمر الكتاب الجامع المقابل علوه لدنو هذا الكفر، وكان في طي إشعار الانتقام أحد قسمي إقامة اليومية في طرفي النقمة والرحمة، فتقابل هذان الخطابان إفصاحاً وإفهاماً من حيث ذكر تفصيل الكتب إفصاحاً فافهم متنزل الفتنة في الابتداء إلاحة، فإنه كما أنزل الكتب هدى أنزل متشابهها فتنة، فتعادل الإفصاحان والإلاحتان، وتم بذلك أمر الدين في هذه السورة انتهى‏.‏ وما أحسن إطلاق العذاب بعد ذكر الفرقان ليشمل الكون في الدنيا نصرة للمؤمنين استجابة لدعائهم، وفي الآخرة تصديقاً لقولهم وزيادة في سرورهم ونعيمهم، وتهديداً لمن تُرك كثير من هذه السورة بسببهم وهم وفد نصارى نجران‏.‏ يجادلون النبي في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فتارة يقولون‏:‏ هو الله، وتارة يقولون‏:‏ هو ابن الله، وتارة يقولون، هو ثالث ثلاثة، وكان بعضهم عالماً بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وبأن أحمد الذي بشر به هو هذا النبي العربي فقال له بعض أقاربه‏:‏ فلم لا تتبعه وأنت تعلم أن عيسى أمر باتباعه‏؟‏ فقال له‏:‏ لو اتبهناه لسلبنا ملك الروم جميع ما ترى من النعمة، وكان ملوك الروم قد أحبوهم لاجتهادهم في دينهم وعظموهم وسودوهم وخولوهم في النعم حتى عظمت رئاستهم وكثرت أموالهم على ما بين في السيرة الهشامية وغيرها، واستمر سبحانه وتعالى يؤكد استجابته لدعاء أوليائه بالنصرة آخر البقرة في نحو قوله‏:‏

‏{‏إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 12‏]‏ إلى أن ختم السورة بشرط الاستجابة فقال‏:‏ ‏{‏اصبروا وصابروا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 200‏]‏، ثم قال توضيحاً لما قدم في آية الكرسي من إثبات العلم، واستدلالاً على وصفه سبحانه وتعالى بالقيومية التي فارق بها كل من يدعي فيه الإلهية مشيراً بذلك إلى الرد على من جادل في عيسى عليه الصلاة والسلام فأطراه بدعواه أنه إله، وموضحاً لأن كتبه هدى وأنه عالم بالمطيع والعاصي بما تقدم أنه أرشد العطف في ‏{‏والله عزيز‏}‏ لى تقديره، ومعللاً لوصفه بالعزة والقدرة لما يأتي في سورة طه من أن تمام العلم يستلزم شمول القدرة‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ بما له من صفات الكمال التي منها القيومية ‏{‏لا يخفى عليه شيء‏}‏ وإن دق، ولما كان تقريب المعلومات بالمحسوسات أقيد في التعليم والبعد عن الخفاء قال وإن كان علمه سبحانه وتعالى لا يتقيد بشيء‏:‏ ‏{‏في الأرض ولا في السماء *‏}‏ أي ولا هم يقدرون على أن يدعوا في عيسى عليه الصلاة والسلام مثل هذا العلم، بل في إنجيلهم الذي بين أظهرهم الآن في حدود السبعين والثمانمائة التصريح بأنه يخفى عليه بعض الأمور، قال في ترجمة إنجيل مرقس في قصة التي كانت بها نزف الدم‏:‏ إنها أتت من ورائه فأمسكت ثوبه فبرأت فعلم القوة التي خرجت منه، فالتفت إلى الجمع وقال‏:‏ من مس ثوبي‏؟‏ فقال له تلاميذه‏:‏ ما ندري، الجمع يزحمك، ويقول‏:‏ من اقترب‏؟‏ فجاءت وقالت له الحق، فقال‏:‏ يا ابنة‏!‏ إيمانك خلصك؛ وهو في إنجيل لوقا بمعناه ولفظه‏:‏ فجاءت من ورائه وأمسكت طرف ثوبه، فوقف جري دمها الذي كان يسيل منها، فقال يسوع من لمسني‏؟‏ فأنكر جميعهم، فقال بطرس والذي معه‏:‏ يا معلم الخير‏!‏ الجميع يزحمك ويضيق عليك ويقول‏:‏ من الذي لمسني من قرب مني‏؟‏ قد علمت أن قوة خرجت مني إلى آخره‏.‏ وقال ابن زبير‏:‏ ثم أشار قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يخفى عليه شيء‏}‏ إلى ما تقدم أي في البقرة من تفصيل أخبارهم‏.‏ فكان الكلام في قوة أن لو قيل‏:‏ أيخفي عليه مرتكبات العباد‏!‏ وهو مصورهم في الأرحام والمطلع عليهم حيث لا يطلع عليهم غيره انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏6‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

ولما قرر سبحانه وتعالى شمول علمه أتبعه دليله من تمام قدرته فقال‏:‏ وقال الحرالي‏:‏ ولما كان كل تفصيل يتقدمه بالرتبة مجمل جامع، وكانت تراجم السورة موضع الإجمال ليكون تفصيلها موضع التفاصيل، وكان من المذكور في سورة الكتاب ما وقع من اللبس كذلك كان في هذه السورة التي ترجمها جوامع إلهية ما وقع من اللبس في أمر الإلهية في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فكان في هذه الآيه الجامعة توطئة لبيان الأمر في شأنه عليه السلام من حيث إنه مما صور في الرحم وحملته الأنثى ووضعته، وأن جميع ما حوته السماء والأرض لا ينبغي أن يقع فيه لبس في أمر الإلهية؛ انتهى فقال مبيناً أمر قدرته بما لا يقدر عليه عيسى عليه الصلاة والسلام ولا غيره‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏الذي‏}‏ وقرعهم بصرف القول من الغيبه إلى الخطاب ليعظم تنبههم على ما هم فيه من قهر المصور لهم على ما أوجدهم عليه مما يشتهونه ولا يفقهونه فقال‏:‏ ‏{‏يصوركم‏}‏ أي أن كنتم نطفاً من التصوير وهو إقامه الصورة‏.‏ وهي تمام البادي التي يقع عليها حس الناظر لظهورها، فصورة كل شيء تمام بدوه قال الحرالي‏:‏ ‏{‏في الأرحام‏}‏ أي التي لا اطلاع لكم عليها بوجه، ولما كان التصوير في نفسه أمراً معجباً وشيناً للعقل إذا تأمله وإن كان قد هان لكثرة الإلف باهراً فكيف بأحواله المتباينه وأشكاله المتخالفة المتباينة أشار إلى التعجب من أمره وجليل سره بآلة الاستفهام وإن قالوا‏:‏ إنها في هذا الوطن شرط، فقال‏:‏ ‏{‏كيف‏}‏ أي كما ‏{‏يشاء‏}‏ أي على أي حالة أراد، سواء عنده كونكم من نطفتي ذكر وأنثى أو نطفة أنثى وحدها دليلاً على كمال العلم والقيومية، وإيماء إلى أن من صور في الأرحام كغيره من العبيد لا يكون إلا عبداً، إذ الإله متعال عن ذلك لما فيه من أنواع الاحتياج والنقص‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ فكان في إلاحة هذه الآية توزيع أمر الإظهار على ثلاثة وجوه تناظر وجوه التقدير الثلاثة التي في فاتحة سورة البقرة، فينتج هدى وإضلالاً وإلباساً أكمل الله به وحيه، كما أقام بتقدير الإيمان والكفر والنفاق خلقه فطابق الأمر الخلق فأقام الله سبحانه وتعالى بذلك قائم خلقه وأمره، فكان في انتظام هذه الإفهامات أن بادي الأحوال الظاهرة عند انتهاء الخلق إنما ظهرت لأنها مودعة في أصل التصوير فصورة نورانية يهتدي بها وصورة ظلمانية يكفر لأجلها، وصورة ملتبسة عيشية علمية يفتتن ويقع الإلباس والالتباس من جهتها، مما لا يفي ببيانها إلا الفرقان المنزل على هذه الأمه، ولا تتم إحاطة جميعها إلا في القرآن المخصوصة به أئمة هذه الأمه انتهى‏.‏

فقد علم أن التصوير في الرحم أدق شيء علماً وقدرة، فعلم فاعله بغيره والقدرة عليه من باب الأولى فثبت أنه لا كفوء له؛ فلذلك وصل به كلمه الإخلاص وقال الحرالي‏:‏ ولما تضمنت إلاحة هذه الآية ما تضمنته من الإلباس والتكفير أظهر سبحانه وتعالى كلمه الإخلاص ليظهر نورها أرجاس تلك الإلباسات وتلك التكفيرات فقال‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ إيذاناً بما هي له الإلباس والتكفير من وقوع الإشراك بالإلهية والكفر فيها والتلبس والإلتباس في أمرها؛ فكان في طي هذا التهليل بشرى بنصرة أهل الفرقان وأهل القرآن على أهل الالتباس والكفران وخصوصاً على أهل الإنجيل الذين ذكرت كتبهم صريحاً في هذا التنزيل بل يؤيد إلاحته في التهليل إظهار الختم في هذه الآية بصفتي العزة المقتضية للانتقام من أهل عداوته والحكمة المقتضية لإكرام أهل ولايته؛ انتهى فقال‏:‏ ‏{‏العزيز‏}‏ أي الغالب غلبة لا يجد معها المغلوب وجه مدافعة ولا انفلات، ولا معجز له في إنفاذ شيء من أحكامه ‏{‏الحكيم *‏}‏ أي الحاكم بالحكمة، فالحكم المنع عما يترامى إليه المحكوم عليه وحمله على ما يمتنع منه من جميع أنواع الصبر ظاهراً بالسياسة العالية نظراً له، والحكمة العلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم من قوام أمر العاجله وحسن العقبى في الآجلة؛ ففي ظاهر ذلك الجهد، وفي باطنه الرفق، وفي عاجله الكره، وفي آجله الرضى والروح؛ ولايتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم، فبذلك يكون تنزيل أمر العزة على وزن الحكمة قاله الحرالي بالمعنى‏.‏

ولما ختم سبحانه وتعالى بوصف العزة الدالة على الغلبة الدالة على كمال القدرة والحكمة المقتضي لوضع كل شيء في أحسن محاله وأكملها المستلزم لكمال العلم، تقديراً لما مر من التصوير وغيره، وكان هذا الكتاب أكمل مسموعات العباد لنزوله على وجه هو أعلى الوجوه، ونظمه على أسلوب أعجز الفصحاء وأبكم البلغاء إلى غير ذلك من الأمور الباهرة والأسرار الظاهرة، وعلى عبد هو أكمل الخلق؛ أعقب الوصفين بقوله بياناً لتمام علمه وشمول قدرته‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏الذي‏}‏ ولما فصل أمر المنزل إلى المحكم والتشابه نظر إليه جملة كما اقتضاه التعبير بالكتاب فعبر بالإنزال دون التنزيل فقال‏:‏ ‏{‏أنزل عليك‏}‏ أي خاصة ‏{‏الكتاب‏}‏ أي القرآن، وقصر الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا موضع الراسخين وهو رأسهم دلالة على أنه لا يفهم هذا حق فهمه من الخلق غيره‏.‏ قال الحرالي‏:‏ ولما كانت هذه السورة فيما اختصت به من علن أمر الله سبحانه وتعالى مناظرة بسورة البقرة فيما أنزلت من إظهار كتاب الله سبحانه وتعالى كان المنتظم بمنزل فاتحتها ما يناظر المنتظم بفاتحة سورة البقرة، فلما كانت سورة البقرة منزل كتاب هو الوحي انتظم بترجمتها الإعلام بأمر كتاب الخلق الذي هو القدر، فكما بين في أول سورة البقرة كتاب تقدير الذي قدره وكتبه في ذوات من مؤمن وكافر ومردد بينهما هو المنافق فتنزلت سورة كتاب للوحي إلى بيان قدر الكتاب الخلقي لذلك كان متنزل هذا الافتتاح الإلهي إلى أصل منزل الكتاب الوحي؛ ولما بين أمر الخلق أن منهم من فطره على الإيمان ومنهم من جبله على الكفر ومنهم من أناسه بين الخلقين، بين في الكتاب أن منه ما أنزله على الإحكام ومنه ما أنزله على الاشتباه؛ وفي إفهامه ما أنزله على الافتنان والإضلال بمنزله ختم الكفار؛ انتهى فقال‏:‏ ‏{‏منه آيات محكمات‏}‏ أي لا خفاء بها‏.‏

قال الحرالي‏:‏ وهي التي أبرم حكمها فلم ينبتر كما يبرم الحبل الذي يتخذ حكمة أي زماماً يزم به الشيء الذي يخاف خروجه على الانضباط، كأن الآيه المحكمة تحكم النفس عن جولانها وتمنعها من جماحها وتضبطها إلى محال مصالحها، ثم قال‏:‏ فهي آي التعبد من الخلق للخلق اللائي لم يتغير حكمهن في كتاب من هذه الكتب الثلاث المذكورة، فهن لذلك أم انتهى‏.‏

ولما كان الإحكام في غاية البيان فكان في تكامله ورد بعض معانيه إلى بعض كالشيء الواحد، وكان رد المتشابه إليه في غايه السهولة لمن رسخ إيمانه وصح قصده واتسع علمه ليصير الكل شيئاً واحداً أخبر عن الجمع بالمفرد فقال‏:‏ ‏{‏هن أم الكتاب‏}‏ والأم الأمر الجامع الذي يؤم أي يقصد، وقال الحرالي‏:‏ هي الأصل المقتبس منه الشيء في الروحانيات والنابت منه أو فيه في الجسمانيات ‏{‏وأخر‏}‏ أي منه ‏{‏متشابهات‏}‏ قال الحرالي‏:‏ والتشابه تراد التشبه في ظاهر أمرين لشبه كل واحد منهما بالآخر بحيث يخفى خصوص كل واحد منهما؛ ثم قال‏:‏ وهن الآي التي أخبر الحق سبحانه وتعالى فيهن عن نفسه وتنزلات تجلياته ووجوه إعانته لخلقه وتوفيقه وإجرائه ما أجرى من اقتداره وقدرته في بادئ ما أجراه عليهم، فهن لذلك متشبهات من حيث إن نبأ الحق عن نفسه لا تناله عقول الخلق، ولا تدركه أبصارهم، وتعرف لهم فيما تعرف بمثل أنفسهم، فكأن المحكم للعمل والمتشابه لظهور العجز، فكان لذلك حرف المحكم أثبت الحروف عملاً، وحرف المتشابه أثبت الحروف إيماناً، واجتمعت على إقامته الكتب الثلاث، واختلفت في الأربع اختلافاً كثيراً فاختلف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها، واتفق على محكمها ومتشابهها انتهى‏.‏ فبين سبحانه وتعالى بهذا أنه كما يفعل الأفعال المتشابهه مثل تصوير عيسى عليه الصلاة والسلام من غير نطفة ذكر، مع إظهار الخوارق على يديه لتبين الراسخ في الدين من غيره كذلك يقول الأقوال المتشابهه، وأنه فعل في هذا الكتاب ما فعل في غيره من كتبه من تقسيم آياته إلى محكم ومتشابه ابتلاء لعباده ليبين فضل العلماء الراسخين الموقنين بأنه من عنده، وأن كل ما كان من عند الله سبحانه وتعالى فلا اختلاف فيه في نفس الأمر، لأن سبب الاختلاف الجهل أو العجز، وهو سبحانه وتعالى متعال جده منزه قدره عن شيء من ذلك، فبين فضلهم بأنهم يؤمنون به، ولا يزالون يستنصرون منه سبحانه وتعالى فتح المنغلق وبيان المشكل حتى يفتحه عليهم بما يرده إلى المحكم، وهذا على وجه يشير إلى المهمة الذي تاه فيه النصارى، والتيه الذي ضلوا فيه عن المنهج، واللج الذي أغرق جماعاتهم، وهو المتشابه الذي منه أنهم زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يقول له القائل‏:‏ يا رب‏!‏ افعل لي كذا ويسجد له، فيقره على ذلك ويجيب سؤاله، فدل ذلك على أنه إله، ومنه إطلاقه على الله سبحانه وتعالى أباً وعلى نفسه أنه ابنه، فابتغوا الفتنه فيه واعتقدوا الأبوة والنبوة على حقيقتهما ولم يردوا ذلك إلى المحكم الذي قاله لهم فأكثر منه، كما أخبر عنه أصدق القائلين سبحانه وتعالى في الكتاب المتواتر الذي حفظه من التحريف والتبديل‏:‏

‏{‏لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 42‏]‏، وهو ‏{‏إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 30، 31‏]‏ ‏{‏ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏ ‏{‏إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 51‏]‏، هذا مما ورد في كتابنا الذي لم يغيروا ما عندهم فإن كانوا قد بدلوه فقد ولله الحمد منه في الأناجيل الأربعة التي بين أظهرهم الآن في أواخر هذا القرن التاسع من المحكم ما يكفي في رد المتشابه إليه، ففي إنجيل لوقا أن جبريل عليه الصلاة والسلام ملاك الرب لما تبدى لمريم مبشراً بالمسيح عليه السلام وخافت منه قال لها‏:‏ لا تخافي يا مريم ظفرت بنعمة من عند الله سبحانه وتعالى، وأنت تقبلين حبلاً وتلدين ابناً يدعى يسوع، يكون عظيماً، وابن العذراء يدعى؛ ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه؛ وفي إنجيله أيضاً وإنجيل متى أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال وقد أمره إبليس أن يجرب قدره عند الله بأن يطرح نفسه من شاهق‏:‏ مكتوب‏:‏ لا تجرب الرب إلهك، وقال وقد أمره أن يسجد له‏:‏ مكتوب‏:‏ للرب إلهك اسجد، وإياه وحده اعبد، وصرح أن الله سبحانه وتعالى واحد في غير موضع؛ وفي إنجيل لوقا أنه دفع إلى المسيح سفر أشعيا النبي فلما فتحه وجد الموضع الذي فيه مكتوب‏:‏ روح الرب عليّ، من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأبشر بالسنة المقبولة للرب، والأيام التي أعطانا إلهنا، ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم؛ وفيه وفي غيره من أناجيلهم‏:‏ من قبل هذا فقد قبلني، ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني، ومن سمع منكم فقد سمع مني، ومن جحدكم فقد جحدني، ومن جحدني فقد شتم الذي أرسلني ومن أنكرني قدام الناس أنكرته قدام الناس، أنكرته قدام ملائكة الله، وفي إنجيل يوحنا أنه قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام‏:‏ الذي أرسله الله إنما ينطق بكلام الله لأنه ليس بالكيس، أعطاه الله الروح، وقال‏:‏ قد سأله تلاميذه أن بأكل فقال لهم‏:‏ طعامي أن أعمل مسرة من أرسلني وأتم عمله؛ وفيه في موضع آخر‏:‏ الحق الحق أقول لكم‏!‏ أن من يسمع كلامي وآمن بمن أرسلني وجبت له الحياة المؤبده، لست أقدر أعمل شيئاً من ذات نفسي، وإنما أحكم بما أسمع، وديني عدل لأني لست أطلب مسرتي بل مسرة من أرسلني؛ وفي إنجيل مرقس أنه قال لناس‏:‏ تعلمتم وصايا الناس وتركتم وصايا الله، وزجر بعض من اتبعه فقال‏:‏ اذهب يا شيطان‏!‏ فإنك لم تفكر في ذات الله، وتفكر في ذات الناس؛ فقد جعل الله إلهه وربه ومعبوده، واعترف له بالوحدانيه وجعل ذاته مبايناً لذات الناس الذي هو منهم؛ وفي جميع أناجيلهم نحو هذا، وأنه كان يصوم ويصلي لله ويأمر تلاميذه بذلك، ففي إنجيل لوقا أنهم قالوا له‏:‏ يا رب‏!‏ علمنا نصلي كما علم يوحنا تلاميذه، فقال لهم‏:‏ إذا صليتم فقولوا‏:‏ أبانا الذي في السماوات يتقدس اسمك‏!‏ كفافنا أعطنا في كل يوم، واغفر لنا خطايانا لأنا نغفر لمن لنا عليه، ولا تدخلنا في التجارب، لكن نجنا من الشرير؛ ولما دخل الهيكل بدأ يخرج الذين يبيعون ويشترون فيه، فقال لهم‏:‏ مكتوب أن بيتي هو بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مفازة اللصوص‏!‏ فعلم من هذا كله أن إطلاق اسم الرب عليه لأن الله سبحانه وتعالى أذن له أن يفعل بعض أفعاله التي ليست في قدرة البشر، والرب يطلق على السيد أيضاً، كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام‏:‏

‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 42‏]‏‏.‏ ثم وجدت في أوائل إنجيل يوحنا أن الرب تأويله العلم، ولو ردوا أيضاً الأب والابن إلى هذا المحكم وأمثاله وهي كثيرة في جميع أناجيلهم لعلموا بلا شبهة أن معناه أن الله سبحانه وتعالى يفعل معه ما يفعل الوالد مع ولده من الترية والحياطة والنصرة والتعظيم والإجلال، كما لزمهم حتماً أن يأولوا قوله فيما قدمته‏:‏ أبانا الذي في السماوات، وقوله في إنجيل متى لتلاميذه‏:‏ هكذا فليضئ نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات، وقال‏:‏ وأحسنوا إلى من أبغضكم، وصلوا على من يطردكم ويخزيكم لكيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات، لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصديقين والظالمين، انظروا‏!‏ لا تصنعوا أمراً حكم قدام الناس لكي يروكم، فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات، وإذا صنعت رحمة فلا تضرب قدامك بالبوق، ولا تصنع كما يصنع المراؤون في المجامع وفي الأسواق لكي يمجدوا من الناس، الحق أقول لكم‏!‏ لقد أخذوا أجرهم؛ وأنت إذا صنعت رحمة لا تعلم شمالك ما صنعته يمينك، لتكون صدقة في خفية، وأبوك الذي يرى الخفية يعطيك على نية؛ وقل في الفصل العاشر منه‏:‏ وصل لأبيك سراً، وأبوك يرى السر فيعطيك علانية‏.‏

وهكذا في جميع آيات الأحكام من الإنجيل كرر لهم هذه اللفظة تكريراً كثيراً، فكما تأول لها النصارى بأن المراد منها تعظيمهم له أشد من تعظيمهم لآبائهم ليعتني بهم أكثر من اعتناء الوالد بالولد فكذلك يأولون ما في إنجيل لوقا وغيره أن أم عيسى وإخواته أتوا اليه فلم يقدروا لكثره الجمع على الوصول إليه فقالوا له أملك وإخواتك خارجاً يريدون أن ينظروا إليك، فأجاب‏:‏ أمي وأخوتي الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها؛ فكذلك يلزمهم تأويلها في حق عيسى عليه الصلاة والسلام لذلك ليرد المتشابه إلى المحكم‏.‏ وإن لم يأولوا ذلك في حق أنفسهم وحملوه على الظاهر كما هو ظاهر قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ كانوا مكابرين في المحسوس بلا شبهة، فإن كل أحد منهم مساو لجميع الناس وللبهائم في أن له أبوين، وكانت دعواهم هذة ساقطة لا يردها عليهم إلا من تبرع بإلزامهم بمحسوس آخر هم به يعترفون، وقد أقام هو نفسه عليه الصلاة والسلام أدلة على صرفها عن ظاهرها، منها غير ما تقدم أنه كثيراً ما كان يخبر عن نفسه فيقول‏:‏ ابن الإنسان يفعل كذا، ابن البشر قال كذا يعني نفسه الكريمة، فحيث نسب نفسه إلى البشر كان مريداً للحقيقة، لأنه ابن امرأة منهم، وهو مثلهم في الجسد، والمعاني حيث نسبها إلى الله سبحانه وتعالى كان على المجاز كما تقدم‏.‏ وأما السجود فقد ورد في التوراة كثيراً لأحاد الناس من غير نكير، فكأنه كان جائزاً في شرائعهم فعله لغير الله سبحانه وتعالى على وجه التعظيم والله سبحانه وتعالى أعلم، وأما نحن فلا يجوز فعله لغير الله، ولا يجوز في شريعتنا أصلاً إطلاق الأب ولا الابن بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، وكذا كل لفظ أوهم نقصاً سواء صح أن ذلك كان جائزاً في شرعهم أم لا، وإذا راجعت تفسير البيضاوي لقوله سبحانه وتعالى في البقرة ‏{‏إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 117‏]‏ زادك بصيرة فيما هنا؛ والحاصل أنهم لم يصرفوا ذلك في حق عيسى عليه الصلاة والسلام عن ظاهره وحقيقته وتحكموا بأن المراد منه المجاز وهو هنا إطلاق اسم الملزوم على اللازم، وكذا غيره من متشابه الإنجيل، كما فعلنا نحن بمعونة الله سبحانه وتعالى في وصف الله سبحانه وتعالى بالرضى والغضب والرحمة والضحك وغير ذلك مما يستلزم حمله على الظاهر وصفات المحدثين، وكذا ذكر اليد والكف والعين ونحو ذلك فحملنا ذلك كله على أن المراد منه لوازمه وغاياته مما يليق بجلاله سبحانه وتعالى مع تنزيهنا له سبحانه وتعالى عن كل نقص وإثباتنا له كل كمال، فإن الله سبحانه وتعالى عزه وجده وجل قدره ومجده أنزل حرف المتشابه ابتلاء لعباده لتبين الثابت من الطائش والموقن من الشاك‏.‏

قال الحرالي في كتابه عروة المفتاح‏:‏ وجه إنزال هذا الحرف تعرف الحق للخلق بمعتبر ما خلقهم عليه ليلفتوا عنه وليفهموا خطابه، وليتضح لهم نزول رتبهم عن علو ما تعرف به لهم، وليختم بعجزهم عن إدراك هذا الحرف علمهم بالأربعة يعني الأمر والنهي والحلال والحرام، وحبسهم بالخامس وتوقفهم عنه والاكتفاء بالإيمان منه ما تقدم من عملهم بالأربعة، واتصافهم بالخامس ليتم لهم العبادة بالوجهين من العمل والوقوف والإدراك والعجز ‏{‏فارجع البصر هل ترى من فطور‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3‏]‏ علماً وحساً ‏{‏ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏ عجزاً، أعلمهم بحظ من علم أنفسهم وغيرهم بعد أن أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً ثم أعجزهم عن علم أمره وأيامه الماضية والآتية وغائب الحاضرة ليسلموا له اختيار فيرزقهم اليقين بأمره وغائب أيامه، كما أسلموا له في الصغر اضطراراً، فرزقهم حظاً من علم خلقه، فمن لم يوقفه في حد الإيمان اشتباه خطابه سبحانه وتعالى عن نفسه وما بينه وبين خلقه وحاول تدركه بدليل أو فكر أو تأويل حرم اليقين بعلي الأمر والتحقيق في علم الخلق، وأوخذ بما أضاع من محكم ذلك المتشابه حين اشتغل لما يعنيه من حال نفسه بما لا يعنيه من أمر ربه، فكان كالمتشاغل بالنظر في ذي الملك، وتنظره يرمي نفسه عن مراقبة ما يلزمه من تفهم حدوده وتذلله لحرمته؛ وجوامع منزل هذا الحرف في رتبتين‏:‏ مبهمة ومفصلة، أما انبهامه فلوقوف العلم به على تعريف الله سبحانه وتعالى من غير واسطة من وسائط النفس من فكر ولا استدلال، وليتدرب المخاطب بتوقفه على المبهم على توقفه عن مفصله ومبهمه، وهو جامع الحروف المنزلة في أوائل السور التسع والعشرين من سوره وبه افتتح الترتيب في القرآن، ليتلقى الخلق بادي أمر الله بالعجز والوقوف والاستسلام إلى أن يمن الله سبحانه وتعالى بعلمه بفتح من لدنه، ولذلك لم يكن في تنزيله في هذه الرتبة ريب لمن علمه الله سبحانه وتعالى كنهه من حيث لم يكن للنفس مدخل في علمه، وذلك قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1، 2‏]‏ لمن علمه الله إياه ‏{‏هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2، 3‏]‏ وقوفاً عن محاولة علم ما ليس في وسع الخلق علمه، حتى تلحقه العنايه من ربه فعلمه ما لم يكن في علمه؛ وأما الرتبة الثانية فمتشابه الخطاب المفصل المشتمل على إخبار الله عن نفسه وتنزيلات أمره، ورتب إقامات خلقه بإبداع كلمته وتصيير حكمته وباطن ملكوته وعزيز جبروته وأحوال أيامه؛ وأول ذلك في ترتيب القرآن إخباره عن استوائه في قوله‏:‏

‏{‏ثم استوى إلى السماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ إلى قوله سبحانه وتعالى ‏{‏فأينما تولوا فثم وجه الله‏}‏ ‏[‏لبقرة‏:‏ 115‏]‏ إلى سائر ما أخبر عنه من عظم شأنه في جملة آيات متعددات لقوله سبحانه وتعالى ‏{‏إلا لنعلم من يتبع الرسول‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، ‏{‏فإني قريب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏ ‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏، ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ ‏{‏فأذنوا بحرب من الله ورسوله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 279‏]‏، ‏{‏هو الذي يصوركم في الأرحام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 6‏]‏، ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏، ‏{‏ولله ملك السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 189‏]‏، ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏، ‏{‏وكان الله سميعاً بصيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 85‏]‏، ‏{‏بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء‏}‏ ‏[‏المائده‏:‏ 64‏]‏، ‏{‏وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 3‏]‏، ‏{‏خلق السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏، ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏، ‏{‏ولتصنع على عيني‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏، ‏{‏قل من بيده ملكوت كل شيء‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 88‏]‏، ‏{‏فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 30‏]‏، ‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏، ‏{‏هو الذي يصلي عليكم وملائكته‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 43‏]‏، ‏{‏إن الله وملائكته يصلون علىلنبي‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 56‏]‏، ‏{‏ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏، ‏{‏وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 84‏]‏، ‏{‏وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه‏}‏ ‏[‏الجاثيه‏:‏ 13‏]‏، ‏{‏وله الكبرياء في السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الجاثيه‏:‏ 37‏]‏، ‏{‏كل من عليها فان ويبقى وجه ربك‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26، 27‏]‏، ‏{‏هو الأول والآخر والظاهر والباطن‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏، ‏{‏وهو معكم أين ما كنتم‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏، ‏{‏ما يكون من نجوى ثلاثه إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏، ‏{‏فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏، ‏{‏تبارك الذي بيده الملك‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏تعرج الملائكة والروح اليه‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4‏]‏، ‏{‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 22، 23‏]‏، ‏{‏وما تشاؤون إلا أن يشاء الله‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏، ‏{‏وجاء ربك والملك صفاً صفاً‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏ إلى سائر ما أخبر فيه عن تنزلات أمره وتسوية خلقه وما أخبرعنه حبيبه صلى الله عليه وسلم من محفوظ الأحاديث التي عرف بها أمته ما يحملهم في عبادتهم على الانكماش والجد والخشية والوجل والإشفاق وسائر الأحوال المشار إليها في حرف المحكم من نحو حديث النزول والقدمين والصورة والضحك والكف والأنامل، وحديث عناية لزوم التقرب بالنوافل وغير ذلك من الأحاديث التي ورد بعضها في الصحيحين، واعتنى بجمعها الحافظ المتقن أبو الحسن الدارقطني رحمه الله تعالى، ودوَّن بعض المتكلمين جملة منها لقصد التأويل، وشدد النكير في ذلك أئمة المحدثين، يؤثر عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه ورحمة أنه قال‏:‏ آيات الصفات وأحاديث الصفات صناديق مقفلة مفاتيحها بيد الله سبحانه وتعالى، تأويلها تلاوتها، ولذلك أئمة الفقهاء وفتياهم لعامة المؤمنين والذي اجتمعت عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولقنته العرب كلها أن ورود ذلك عن الله ومن رسوله ومن الأئمة إنما هو لمقصد الإفهام، لا لمقصد الإعلام، فلذلك لم يستشكل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم شيئاً قط، بل كلما كان وارده عليهم أكثر كانوا به أفرح، وللخطاب به أفهم، حتى قال بعضهم لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إن الله تعالى يضحك من عبده‏:‏ لا نعدم الخير من رب يضحك» وهم وسائر العلماء بعدهم صنفان‏:‏ إما متوقف عنه في حد الإيمان، قانع بما أفاد من الإفهام، وإما مفتوح عليه بما هو في صفاء الإيقان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى تعرف لعباده في الأفعال والآثار في الآفاق وفي أنفسهم تعليماً، وتعرف للخاصة منهم بالأوصاف العليا والأسماء الحسنى مما يمكنهم اعتباره تعجيزاً، فجاوزوا حدود التعلم بالإعلام إلى عجز الإدراك فعرفوا أن لا معرفة لهم، وذلك هو حد العرفان وإحكام قراءة هذا الحرف المتشابه في منزل القرآن، وتحققوا أن ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ و‏{‏لم يكن له كفواً أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏ فتهدفوا بذلك لما يفتحه الله على من يحبه من صفاء الإيقان، والله يحب المحسنين‏.‏ ثم قال فيما به تحصل قراءة هذا الحرف‏:‏ اعلم أن تحقيق الإسلام بقراءة حرف المحكم لا يتم إلا بكمال الإيمان بقراءة حرف المتشابه تماماً لأن حرف المحكم حال يتحقق للعبد‏.‏ ولما كان حرف المتشابه إخباراً عن نفسه سبحانه وتعالى بما يتعرف به لخلقه من أسماء وأوصاف كانت قراءته بتحقق العبد أن تلك الأسماء والأوصاف ليست مما تدركه حواس الخلق ولا ما تناله عقولهم، وإن أجرى على تلك الاسماء والأوصاف على الخلق فيوجه، لا يلحق أسماء الحق ولا أوصافه منها تشبيه في وهم ولا تمثيل في عقل ‏{‏ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، ‏{‏ولم يكن له كفواً أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏، فلاذي يصح به قراءة هذا الحرف أما من جهة القلب فالمعرفة بأن جميع أسماء الحق وأوصافه تعجز عن معرفتها إدراكات الخلق وتقف عن تأويلها إجلالاً وإعظاماً معلوماتُهم، وأن حسبها معرفتها بأنها لا تعرفها، وأما من جهة حال النفس والاستكانة لما يوجبه تعرف الحق بتلك الأسماء والأوصاف من التحقق بما يقابلها والبراءة من الاتصاف بها لأن ما صلح للسيد حرم على العبد لتحقق فقر الخلق من تسمي الحق بالغنى، ولا يتسمى بالغنى فيقدح في هداه، فيهلك باسمه ودعواه، ولتحقق ذلهم من تسميته تعالى بالعزة وعجزهم عن تسميته بالقدرة، واستحقاق تخليهم من جميع ما تعرف به من أوصاف الملك والسلطان والغضب والرضى والوعد والوعيد والترغيب والترهيب إلى سائر ما تسمى به في جميع تصرفاته مما ذكر في المتشابه من الآي، وأشير إليه من الأحاديث، وما عليه اشتملت «واردات الأخبار» في جميع الصحف والكتب، ومرائي الصالحين ومواقف المحدثين ومواجد المروّعين؛ وأما من جهة العمل فحفظ اللسان عن إطلاق ألفاظ التمثيل والتشبيه تحقيقاً لما في مضمون قوله سبحانه وتعالى

‏{‏ولم يكن له كفواً أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏ لأن مقتضاها الرد على المشبه من هذه الأمة، وليس لعمل الجوارح في هذا الحرف مظهر سوى ما ذكر من لفظ اللسان، فقراءته كالتوطئة لتخليص العبادة بالقلب في قراءة مفرد حرف الأمثال؛ والله العلي الكبير انتهى‏.‏

وقد تقدم حرف الأمثال عند قوله تعالى ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏ وقد بين سبحانه وتعالى أنه لا يضل بحرف المتشابه إلا ذوو الطبع العوج الذين لم ترسخ أقدامهم في الدين ولا استنارت معارفهم في العلم فقال‏:‏ ‏{‏فأما الذين في قلوبهم زيغ‏}‏ أي اعوجاج عدلوا به عن الحق‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ هو ميل المائل إلى ما يزين لنفسه الميل إليه، والمراد هنا أشد الميل الذي هو ميل القلب عن جادة الاستواء وفي إشعاره ما يلحق بزيغ القلوب من سيئ الأحوال في الأنفس وزلل الأفعال في الأعمال، فأنبأ تعالى عما هو الأشد وأبهم ما هو الأضعف‏:‏ ‏{‏فيتبعون‏}‏ في إشعار هذه الصيغة بما تنبئ عنه من تكلف المتابعه بأن من وقع له الميل فلفته لم تلحقه مذمه هذا الخطاب، فإذا وقع الزلل ولم يتتابع حتى يكون اتباعاً سلم من حد الفتنة بمعالجة التوبة ‏{‏ما تشابه منه‏}‏ فأبهمه إبهاماً يشعر بما جرت به الكليات فيما يقع نبأ عن الحق وعن الخلق من نحو أوصاف النفس كالتعليم والحكيم وسائر أزواج الأوصاف كالغضب والرضى بناء على الخلق في بادئ الصورة من نحو العين واليد والرجل والوجه وسائر بوادي الصورة، كل ذلك مما أنه متشابهات أنزلها الله تعالى ليتعرف للخلق بما جبلهم عليه مما لو لم يتعرف لهم به لم يعرفوه، ففقائدة إنزالها التعرف بما يقع به الامتحان بإحجام الفكر عنه والإقدام على التعبد له، ففائدة إنزاله عملاً في المحكم وفائدة إنزاله فيه توقفاً عنه ليقع الابتلاء بالوجهين‏:‏ عملاً بالمحكم ووقوفاً عن المتشابه، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تتفكروا في الله» وقال علي رضي الله عنه‏:‏ من تفكر في ذات الله تزندق ووافق العلماء إنكار الخلق عن التصرف في تكييف شيء منه، كما ذكر عن مالك رحمه الله تعالى في قوله‏:‏ الكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، فالخوض في المتشابه بدعة، والوقوف عنه سنة؛ وأفهم عنه الإمام أحمد يعني فيما تقدم في آيات الصفات من أن تأويلها تلاوتها، هذا هو حد الإيمان وموقفه، وإليه أذعن الراسخون في العلم، وهم الذين تحققوا في أعلام العلم، ولم يصغوا إلى وهم التخييل والتمثل به في شيء مما أنبأ الله سبحانه وتعالى به نفسه ولا في شيء مما بينه وبين خلقه وكان في توقفهم عن الخوض في المتشابه تفرغهم للعمل في المحكم، لأن المحكم واضح وجداني، متفقه عليه مدارك الفطن وإذعان الجبلات ومنزلات الكتب، لم يقع فيه اختلاف بوجه حتى كان لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، للزوم الواجب من العمل بالمحكم في إذعان النفس، فكما لا يصلح العراء عن الاتصاف بالمحكم لا يصلح الترامي إلى شيء من الخوض في المتشابه لأحد من أهل العلم والإيمان أهل الدرجات، لأن الله سبحانه وتعالى جبل الخلق وفطرهم على إدراك حظ من أنفسهم من أحوالهم، وأوقفهم عن إدراك ما هو راجع إليه، فأمر الله وتجلياته لا تنال إلا بعنايه منه، يزج العبد زجه يقطع به الحجب الظلمانية والنورانية التي فيها مواقف العلماء؛ فليس في هذا الحرف المتشابه إلا أخذ لسانين‏:‏ لسان وقفة عن حد الإيمان للراسخين في العلم المشتغلين بالاتصاف بالتذلل والتواضع والتقوى والبر الذي أمر صلى الله عليه وسلم أن يتبع فيه حتى ينتهي العبد إلى أن يحبه الله، فيرفع عنه عجز الوقفه عن المتشابه، وينقذه من حجاب النورانية، فلا يشكل عليه دقيق ولا يعييه خفي بما أحبه الله، وما بين ذلك من خوض دون إنقاذ هذه العناية فنقص عن حد رتبة الإيمان والرسوخ في العلم، فكل خائض فيه ناقص من حيث يحب أن يزيد، فهو إما عجز إيماني من حيث الفطر الخلقي، وإما تحقق إيقاني توجبه العناية والمحبة انتهى‏.‏

ولما ذكر سبحانه وتعالى اتباعهم له ذكر علته فقال‏:‏ ‏{‏ابتغاء الفتنة‏}‏ أي تمييل الناس عن عقائدهم بالشكوك ‏{‏وابتغاء تأويله‏}‏ أي ترجيعه إلى ما يشتهونه وتدعوا إليه نفوسهم المائلة وأهويتهم الباطلة بادعاء أنه مآله‏.‏ قال الحرالي‏:‏ والابتغاء افتعال‏:‏ تكلف البغي، وهو شدة الطلب، وجعله تعالى ابتغاءين لاختلاف وجهيه، فجعل الأول فتنة لتعلقه بالغير وجعل الثاني تأويلاً أي طلباً للمآل عنده، لاقتصاره على نفسه، فكان أهون الزيغين انتهى‏.‏

ولما بين زيغهم بين أن نسبة خوضهم فيما لا يمكنهم علمه فقال‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنه ما ‏{‏يعلم‏}‏ في الحال وعلى القطع ‏{‏تأويله‏}‏ قال الحرالي‏:‏ هو ما يؤول إليه أمر الشيء في مآله إلى معاده ‏{‏إلا الله‏}‏ أي المحيط قدرة وعلماً، قال‏:‏ ولكل باد من الخلق مآل كما أن الآخرة مآل الدنيا ‏{‏يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏ لذلك كل يوم من أيام الآخرة مآل للذي قبله، فيوم الخلود مآل يوم الجزاء، ومآل الأبد مآل يوم الخلود؛ وأبد الأبد مآل الأبد، وكذلك كل الخلق له مآل من الأمر فأمر الله مآل خلقه وكذلك الأمر، كل تنزيل أعلى منه مآل التنزيل الأدنى إلى كمال الأمر، وكل أمر الله مآل من أسمائه وتجلياته، وكل تجل أجلى مآل لما دونه من تجل أخفى، قال عيه الصلاة والسلام‏:‏

«فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفونها الحديث إلى قوله‏:‏ أنت ربنا» فكان تجليه الأظهر لهم مآل تجليه الأخفى عنهم؛ فكان كل أقرب للخلق من غيب خلق وقائم أمر وعلى تجل إبلاغاً إلى ما وراءه فكان تأويله، فلم تكن الإحاطة بالتأويل المحيط إلا لله سبحانه وتعالى‏.‏ ولما ذكر الزائغين ذكر الثابتين فقال‏:‏ ‏{‏والراسخون في العلم‏}‏ قال الحرالي‏:‏ وهم المتحققون في أعلام العلم من حيث إن الرسوخ النزول بالثقل في الشيء الرخو ليس الظهورعلى الشيء، فلرسوخهم كانوا أهل إيمان، ولو أنهم كانوا ظاهرين على العلم كانوا أهل إيقان، لكنهم راسخون في العلم لم يظهروا بصفاء الإيقان على نور العلم، فثبتهم الله سبحانه وتعالى عند حد التوقف فكانوا دائمين على الإيمان بقوله‏:‏ ‏{‏يقولون آمنا به‏}‏ بصيغة الدوام انتهى أي هذا حالهم في رسوخهم‏.‏

ولما كان هذا قسيماً لقوله‏:‏ ‏{‏وأما الذين في قلوبهم زيغ‏}‏ كان ذلك واضحاً في كونه ابتداء وأن الوقوف على ما قبله، ولما كان هذا الضمير محتملاً للمحكم فقط قال‏:‏ ‏{‏كل‏}‏ أي من المحكم والمتشابه‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وهذه الكلمة معرفة بتعريف الإحاطة التي أهل النحاة ذكرها في وجوه التعريف إلا من ألاح معناها منهم فلم يلقن ولم ينقل جماعتهم ذلك؛ وهو من أكمل وجوه التعريف، لأن حقيقة التعريف التعين بعيان أو عقل، وهي إشارة إلى إحاطة ما أنزله على إبهامه، فكان مرجع المتشابه والمحكم عندهم مرجعاً واحداً، آمنوا بمحل اجتماعه الذي منه نشأ فرقانه، لأن كل مفترق بالحقيقة إنما هو معروج من حد اجتماع، فما رجع إليه الإيمان في قلولهم‏:‏ آمنا به، هو محل اجتماع المحكم والمتشابه في إحاطة الكتاب قبل تفصيله انتهى‏.‏ ‏{‏من عند ربنا‏}‏ أي المحسن إلينا بكل اعتبار، ولعله عبر بعند وهي بالأمر الظاهر بخلاف لدن إشارة إلى ظهور ذلك عند التأمل، وعبروه عن الاشتباه‏.‏

ولما كان مع كل مشتبه أمر إذا دقق النظر فيه رجع إلى مثال حاضر للعقل إما محسوس وإما في حد ظهور المحسوس قال معمماً لمدح المتأملين على دقة الأمر وشدة عموضه بإدغام تاء التفعل مشيراً إلى أنهم تأهلوا بالرسوخ إلى الارتقاء عن رتبته، ملوحاً إلى أنه لا فهم لغيرهم عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فذكرهم الله من معاني المتشابه ببركه إيمانهم وتسليمهم بما نصبه من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ما يمكن أن يكون إرادة منه سبحانه وتعالى وإن لم يكن على القطع بأنه إرادة‏:‏ ‏{‏وما يذكر‏}‏ أي من الراسخين بما سمع من المتشابه ما في حسه وعقله من أمثال ذلك ‏{‏إلا أولوا الألباب*‏}‏ قال الحرالي‏:‏ الذين لهم لب العقل الذي للراسخين في العلم ظاهره، فكان بين أهل الزيغ وأهل التذكر مقابلة بعيدة، فمنهم متذكر ينتهي إلى إيقان، وراسخ في العلم يقف عند حد إيمان، ومتأول يركن إلى لبس بدعة، وفاتن يتبع هوى؛ فأنبأ جملة هذا البيان عن أحوال الخلق بالنظر إلى تلقي الكتاب كما أنبأ بيان سورة البقرة عن جهات تلقيهم للأحكام انتهى‏.‏